الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **
قيل: بينما موسى عليه السلام يمشي ومعه يوشع بن نون فتاه إذ أقبلت ريح سوداء فلمّا نظر إليها يوشع ظنّ أنها الساعة فالتزم موسى وقال: لاتقوم الساعة وأنا ملتزم نبيّ الله فاستلّ موسي من تحت القميص وبقي القميص في يدي يوشع فلمّا جاء يوشع بالقميص أخذه بنو إسرائيل وقالوا: قتلت نبيّ الله فقال: ما قتلته ولكنه استلّ مني فلم يصدّقوه قال: فإذا لم تصدّقوني فأخروني ثلاثة أيام فوكّلوا به من يحفظه فدعا الله فأتي كلّ رجل كان يحرسه في المنام فأُخبر أنّ يوشع لم يقتل موسى وأنّا قد رفعناه إلينا فتركوه. وقيل: إنّ موسى كره الموت فأراد الله أن يحبّب إليه الموت فأوحى الله إلى يوشع بن نون وكان يغدو عليه ويروح ويقول له موسى: يا نبيّ الله ما أحدث الله إليك فقال له يوشع بن نون: يا نبيّ الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة فهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث الله لك ولا يذكر له شيئًا فلمّا رأى موسى ذلك كره الحياة وأحبّ الموت وقيل: إنه مرّ منفردًا برهط من المالذكة يحفرون قبرًا فعرفهم فوقف عليهم فلم يرَ أحسن منه ولم يَر مثل ما فيه من الخضرة والبهجة فقال لهم: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر فقالوا: نحفره لعبد كريم على ربّه فقال: إنّ هذا العبد له منزلٌ كريم ما رأيتُ مضجعًا ولا مدخلًا مثله فقالوا: أتحبّ أن يكون لك قال: وددت قالوا: فانزل واضطجع فيه وتوجّه إلى ربك وتنفّس أسهل تنفس تتنفسّه فنزل فيه وتوجّه إلى ربه ثم تنفس فقبض الله روحه ثمّ سوت الملائكة عليه التراب. وكان ـ النبي ـ صلى الله عليه وسلمـ ـ زاهدًا في الدنيا راغبًا فيما عند الله إنما كان يستظل في عريش ويأكل ويشرب من نقير من حجر تواضعًا إلى الله تعالى . وقال النبي ـ ـ صلى الله عليه وسلمـ ـ : (إنّ الله أرسل ملك الموت ليقبض روحه فلطمه ففقأ عينه فعاد وقال: يا ربّ أرسلتني إلى عبد لا يحبّ الموت قال الله: رجع له وقل له يضع يده على ظهر ثور وله بكلّ شعرة تحت يده سنة وخيّره بين ذلك وبين أن يموت الآن فأتاه ملك الموت وخيّره فقال له: فما بعد ذلك قال: الموت قال: فالآن إذن فقبض روحه ). وهذا القول صحيح قد صحّ النقل به عن النبيّ ـ النبي ـ صلى الله عليه وسلمـ ـ فكان موته في التيه أيضًا.وكان جميع عمر موسى مائة وعشرين سنة من ذلك في ملك أفريدون عشرون وفي ملك منوجهر مائة سنة وكان ابتداء أمره منذ بعثه الله إلي أن قبضه في ملك منوجهر. ثمّ نبّئ بعده يوشع بن نون فكان في زمن منوجهر عشرين سنة وفي زمن أفراسياب سبع سنين. ذكر يوشع بن نون عليه السلام وفتح مدينة الجبارين لما توفي موسى بعث الله يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام نبيًّا إلى بني إسرائيل وأمره بالمسير إلى أريحا مدينة الجبّارين واختلف العلماء في فتحها على يد من كان فقال ابن عبّاس: إنّ موسي وهارون توفيّا في التيه وتوفّي فيه كل من دخله وقد جاوز العشرين سنة غير يوشع بن نون وكالب بن يوفنا فلما انقضى أربعون سنة أوحى الله إلى يوشع بن نون فزمره بالمسير إليها وفتحها ففتحها ومثله قال قتادة والسّدّيّ وعكرمة. وقال آخرون: إنّ موسى عاش حتى خرج من التيه وسار إلى مدينة الجبّارين وعلى مقدمته يوشع بن نون ففتحها وهو قول ابن إسحاق قال ابن إسحاق: سار موسى بن عمران إلى أرض كنعان لقتال الجبّارين فقدّم يوشع بن نون وكالب بن يوفنّا وهو صهره على أخته مريم بنت عمران فلمّا بلغوها اجتمع الجبّارون إلى بلعم بن باعور وهو من ولد لوط فقالوا له: رن موسي قد جاء ليقتلنا ويخرجنا من ديارنا فادع الله عليهم وكان بعلم يعرف اسم الله الأعظم فقال لهم: كيف أدعو على نبيّ الله والمؤمنين ومعهم الملائكة فراجعوه في ذلك وهو يمتنع عليهم فأتوا امرأته وأهدوا لها هديّة فقبلتها وطلبوا إليها أن تحسّن لزوجها أن يدعو على بني إسرائيل فقالت له في ذلك فامتنع فلم تزل به حتى قال: أستخير الله فاستخار الله تعالى فنهاه في المنام فأخبرها بذلك فقالت: راجع ربّك فعاود الاستخارة فلم يرد إليه جواب فقالت: لو أراد ربّك لنهاك ولم تزل تخدعه حتى أجابهم فركب حمارًا له متوجّهًا إلى جبل مشرف على بني إسرائيل ليقف عليه ويدعو عليهم فما سار عليه إلاّ قليلًا حتى ربض الحمار فنزل عنه وضربه حتى قام فركبه فسار به قليلًا فبرك فعل ذلك ثلاث مرّات فلمّا اشتدّ ضربه في الثالثة أنطقه الله فقال له: ويحك يا بلعم أين تذهب أما ترى الملائكة ترى تردّني فلم يرجع فأطلق الله الحمار حينئذ فسار عليه حتى أشرف على بني إسرائيل فكان كلّما أراد أن يدعو عليهم ينصرف لسانه إلى الدعاء لهم وإذا أراد أن يدعو لقومه انقلب دعاؤه عليهم فقالوا له في ذلك فقال: هذا شيء غلبنا الله عليه واندلع لسانه فوقع على صدره فقال: الآن قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبقَ غير المكر والحيلة وأمرهم أن يزيّنوا نساءهم ويعطوهنّ السلع للبيع ويرسلوهنّ إلى العسكر ولا تمنع امرأة نفسها ممن يريدها وقال: إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم ففعلوا ذلك ودخل النساء عسكر بني إسرائيل فأخذ زمرى بن شلوم وهو رأس سبط شمعون بن يعقوب امرأة وأتى بها موسى فقال له: أظنك تقول هذا حرام فوالله لا نطيعك ثمّ أدخلها خيمته فوقع عليها فأنزل الله عليهم الطاعون وكان فنحاص بن العزار بن هارون صاحب أمر عمّه موسى غائبًا فلما جاء رأى الطاعون قد استقر في بني إسرائيل وأُخبر الخبر وكان ذا قوّة وبطش فقصد زمرى فرآه وهو مضاجع المرأة فطعنهما بحربة في يده فانتظمهما ورفع الطاعون وقد هلك في تلك الساعة عشرون ألفًا وقيل: سبعون ألفًا فأنزل الله في بلعم: ثم إن موسى قدّم يوشع الي أريحا في بني إسرائيل فدخلها وقتل بها الجبارين وبقيت منهم بقيّة وقد قاربت الشمس الغروب فخشي أن يدركهم الليل فيعجزوه فدعا الله تعالى أن يحبس عليهم الشمس ففعل وحبسها حتى استأصلهم ودخلها موسى فأقام بها ما شاء الله أن يقيم وقبضه الله إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلق. وأما من زعم أن موسى كان قد توفّي قبل ذلك فقال: إنّ الله أمر يوشع بالمسير إلى مدينة الجبارين فسار ببني إسرائيل ففارقه رجل يقال له بلعم بن باعور وكان يعرف الاسم الأعظم وساق من حديثه نحو ما تقدّم فلمّا ظفر يوشع بالجبارين أدركه المساء ليلة السبت فدعا الله فردّ الشمس عليه وزاد في النهار ساعة فهزم الجبارين ودخل مدينتهم وجمع غنائمهم ليأخذها القربان فلم تأتِ النّار فقال يوشع: فيكم غلول فبايعوني فبايعوه فلصقت يده في يد من غلّ فزتاه برأس ثور من ذهب مكلّل بالياقوت فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأكلتهما. وقيل: بل حصرها ستّة أشهر فلما كان السابع تقدّموا إلى المدينة وصاحوا صيحة واحدة فسقط السور فدخلوهاوهزموا الجبارين وقتلوا فيهم فأكثروا ثمّ اجتمع جماعة من ملوك الشام وقصدوا يوشع فقاتلهم وهزمهم وهرب الملوك إلى غار فأمر بهم يوشع بن نون فقتلوا وصلبوا ثمّ ملك الشام جميعه فصار لبني إسرائيل وفرّق عمّاله فيه ثمّ توفّاه الله فاستخلف على بني إسرائيل كالب بن يوفنّا وكان عمر يوشع مائة وستًّا وعشرين سنة وكان قيامه بالأمر بعد موسى سبعًا وعشرين سنة. وأما من بقي من الجبارين فإن إفريقش بن قيس بن صيفي بن سبأ بن كعب بن زيد بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان مإه بهم متوجهًا إلى افريقية فاحتملهم من سواحل الشام فقدم بهم افريقية فافتتحها وقتل ملكها جرجير وأسكنهم إياها فهم البرابرة وأقام من حمير في البربر صنهاجة وكتامة فهم فيهم إلى اليوم. ذكر أمر قارون وكان قارون بن يصهر بن قاهث وهو ابن عمّ موسى بن عمران بن قاهث وقيل: كان عمّ موسى والأوّل أصحّ وكان عظيم المال كثير الكنوز قيل: إن مفاتيح خزائنه كانت تحمل على أربعين بغلًا فبغى على قومه بكثرة ماله فوعظوه ونهوه وقالوا له ما قصّ الله تعالى في كتابه: وأمره الله تعالى بالزكاة فجاء إي موسى من كلّ ألف دينار دينار وعلى هذا من كلّ ألف شيء شيء فلمّا عاد إلى بيته وجده كثيرًا فجمع نفرًا يثق بهم من بني إسرائيل فقال: إنّ موسى أمركم بكلّ شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أخذ أموالكم فقالوا: أنت كبيرنا وسيّدنا فمرنا بما شئت فقال: آمركم أن تحضروا فلانة البغيّ فتجعلوا لها جُعلًا فتقذفه بنفسها ففعلوا ذلك فأجابتهم إليه. ثمّ أتى موسى فقال: إنّ قومك قد اجتمعوا لك لتأمرهم وتنهاهم فخرج إليهم فقال: من سرق قطعناه ومن افترى جلدناه ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة جلدة وإن كان له امرأة رجمناه حتى يموت فقال له قارون: وإن كنت أنت فقال: نعم قال: فإنّ بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة فقال: ادعوها فإن قالت فهو كما قالت. فلما جاءت قال لها موسى: أقسمت عليك بالذي أنزل التوراة إلا صدقت: أنا فعلتُ بك ما يقول هؤلاء قالت: لا كذبوا ولكن جعلوا لي جعلًا على أن أقذفك فسجد ودعا عليهم فأوحى الله إليه: مُرِ الأرض بما شئت تطعك فقال: يا أرض خذيهم. وقيل: إنّ هذا الأمر بلغ موسى فدعا الله تعالى عليه فأوحى الله إليه: مُر الأرض بما شئت تطعك فجاء موسى إلى قارون فلما دخل عليه عرف الشر في وجهه فقال له: يا موسى ارحمني فقال موسى: يا أرض خذيهم فاضطربت داره وساخت بقارون وأصحابه إلى الكعبين وجعل يقول: يا موسي ارحمني قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم فلم يزل يستعطفه وهو يقول: يا أرض خذيهم حتى خسف بهم فأوحى الله إلى موسى: ما أفظّك أما وعزّتي لو إيّاي نادى لأجبته ولا أعيد الأرض تُطيع أحدًا أبدًا بعدك فهو يخسف به كلّ يوم فلما أنزل الله نقمته حمد المؤمنون الله وعرف الذين تمنّوا مكانه بالأمس خطأ أنفسهم واستغفروا وتابوا. ذكر من ملك من الفرس بعد منوجهر لما هلك منوجهر ملك فارس سار أفراسياب بن فشنج بن رستم ملك الترك إلى مملكة الفرس واستولى عليهم وسار إلى أرض بابل وأكثر المقام بها وبمهرجا نقذق وأكثر الفساد في مملكة فارس وعظم ظلمه وأخرب ما كان عامرًا ودفن الأنهار والقنى وقحط النّاس سنة خمس من ملكه إلي زن خرج عن مملكة فارس ولم يزل النّاس منه فيزعظم البليّة إلى أن ملك زوّ بن طهماسب وكان منوجهر قد سخط على ولده طهماسب ونفاه عن بلاده فأقام في بلاد الترك عن ملك لهم يقال له وامن وتزوّج ابنته فولدت له زوّ بن طهماسب وكان المنجّمون قد قالوا لأبيها: إن ابنته تلد ولدًا يقتله فسجنها فلمّا تزوّجها طهماسب وولدت منه كتمت أمرها وولدها ثمّ إنّ منوجهر رضي عن طهماسب وأحضره إليه فاحتال في إخراج زوجته وابنه زوّ من محبسهما فوصلت رليه ثمّ إنّ زوًّا فيما ذكر قتل جدّه وأمّن في بعض الحروب الترك وطرد أفراسياب التركي عن مملكة فارس حتى ردّه إلى الترك بعد حروب جرت بينهما فكانت غلبة أفراسياب على أقاليم بابل ومملكة الفرس اثنتي عشرة سنة من لدن توفّي منوجهر إلى أن أخرجه عنها زوّ وكان إخراجه عنها في روزابن من شهر ابان ماه فاتخذه لهم هذا اليوم عيدًا وجعلوه الثالث لعيديهم النوروز والمهرجان. وكان زوّ محمودًا في ملكه محسنًا إلى رعيّته فأمر بإصلاح ما كان أفراسياب أفسده من مملكتهم وبعمارة الحصون وإخراج المياه اليت غوّر طرقها حتى عادت البلادُ إلى أحسن ما كانت ووضع عن الناس الخراج سبع سنين فعمرت البلاد في ملكه وكثرت المعايش واستخرج بالسواد نهرًا وسمّاه الزاب وبنى عليه مدينة وهي التي تسمّى العتيقة وجعل لها طسّوج الزاب الأعلي وسسّوج الزاب الأوسط وطسوج الزاب الأسفل وكان أوهل من اتخذ ألوان الطبيخ أمر بها وكان جميع ملكه إلى أن انقضت مدّته ثلاث سنين وكان كرشاسب بن أنوط وزيره في ملكه ومعينه فيه وقيل: كان شريكه في الملك والزوّل أصحّ وكان عظيم الشأن في فارس إلا أنّه لم يملك. ذكر ملك كيقباذ ثمّ ملك بعد زوّ كيقباذ بن راع بن ميسرة بن نوذر بن منوجهر وقدّر مياه الأنهاروالعيون لشرب الأرض وسمى البلاد بأسمائها وحدّها بحدودها وكوّر الكور وبيّن حيّز كلّ كورة وأخذ العشر من غلاّتها لأرزاق الجند وكان - فيما ذكر كيقباذ حريصًا علي عمارة البلاد ومنعها من العدوّ كثير الكنوز وقيل: إنّ الملوك الكيانيّة وأبناءهم من نسله وجرت بينه وبين الترك حروب كثيرة فكان مقيمًا بالقرب من نهر بلخ وهو جيحون لمنع الترك من تطرّق شيء من بلاده وكان ملكه مائة سنة. ذكر الأحداث في بني إسرائيل في عهد زوّ وكيقباذ ونبوة حزقيل لما توفي يوشع بن نون قام بأمر بني إسرائيل بعده كالب بن يوفنّا ثمّ حزقيل بن نورى وهو الذي يقال له ابن العجوز وإنما قيل له ذلك لأنّ أمّه سألت الله الولد وقد كبرت فوهبه الله لها وهو الذي دعا للقوم الموتى فأحياهم الله. وكان سبب ذلك: أنّ قرية يقال لها راوردارة وقع بها الطاعون فهرب عامّة أهلها ونزلوا ناحية فهلك أكثر من بقي بالقرية وسلم الآخرون فلمّا ارتفع الطاعون رجعوا فقال الذين بقوا: أصحابنا هولاء كانوا أحزم منّا ولو صنعنا كما صنعوا بقينا فوقع الطاعون من قابل فهرب عامّة أهلها وهم بضعة وثلاثون ألفًا وقيل: ثلاثة آلاف وقيل: أربعة آلاف وقيل غير ذلك حتي نزلوا ذلك المكان فصاح بهم ملك فماتوا ونخرت عظامهم فمرّ بهم حزقيل فلمّا رآهم جعل يتفكر في بعثهم فأوحى الله إليه: أتريد أن أريك كيف أحييهم قال: نعم فقيل: ناد فنادى: يا أيتها العظام البالية إنّ الله يأمرك أن تجتمعي فجعلت العظام تطير بعضها إلى بعض حتى صارت أجسادًا من عظام ثم نادى: يا أيتها العظام إن الله أمرك أن تكتسي فألبست لحمًا ودمًا وثيابها التي ماتت فيها ثم نادى: يا أيتها الأرواح! إن الله يأمرك أن تعودي إلى أجسادك فعادت وقامت الأجساد أحياء وقالوا: حين أحيوا سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون انهم كانوا موتى سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا الا عاد كفنا دسما ثم ماتوا ثم مات حزقيل ولم تذكر مدته في بني إسرائيل وقيل: كانوا قوم حزقيل فلما أن ماتوا بكى حزقيل وقال يا رب كنت في قوم يعبدونك ويذكرونك فبقيت وحيدا فقال الله أتحب أن أحييهم قال: نعم قال: فإني قد جعلت حياتهم إليك فقال حزقيل: أحيوا بإذن الله تعالى فعاشوا. ذكر إلياس عليه السلام لما توفي حزقيل كثرت الأحداث في بني إسرائيل وتركوا عهد الله وعبدوا الأوثان فبعث اللهم اليهم إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العزار بن هرون بن عمران نبيًا وكان الأنبياء في بني إسرائيل بعر موسى بن عمران يبعثون بتجديد ما نسوا من التوراة وكان إلياس مع ملك من ملوكهم يقال له أخاب وكان يسمع منه ويصدقه وكان إلياس يقيم له أمره وكان بنو إسرائيل قد اتخذوا صنمًا يعبدونه يقال له: بعل فجعل إلياس يدعوهم إلى الله وهم لا يسمعون إلا من ذلك الملك وكان ملوك بني إسرائيل متفرقة كل ملك قد تغلب على ناحية يأكلها فقال ذلك الملك الؤي كان إلياس معه والله ما أرى الذي تدعو إليه إلا باطلًا لأني فلانا وفلانا يعد ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان فلم يضرهم ذلك شيئًا يأكلون ويشربون ويتمتعون ما ينقص ذلك من ديارهم وما نري لنا عليهم من فضل ففارقه إلياس وهو يسترجع فعبد ذلك الملك الأوثان أيضًا.وكان للملك جار صالح مؤمن يكتم إيمانه وله بستان إلى جانب دار الملك والملك يحسن جواره وللمك زوجة عظيمة الشر والكفر فقالت له ليأخذ بستان الرجل فلم يفعل فكانت تخلف زوجها عئيمة الشر والكفر فقالت له ليأخذ بستان الرجل فلم يفعل فكانت تخلف زوجها إذا سار عن بلده وتظهر للناس فغاب مرة فوضعت إمرأته على صاحب البستان من شهد عليه أنه سب الملك فقتلته وأخذت بستانه فلما عاد الملك غضب من ذلك واستعظمه وأنكره فقالت: فات أمره فأوحى الله إلى إلياس يأمره أن يقول للملك وامرأته أن يرد البستان على ورثة صاحبه فإن لم يفعلا غضب عليهما وأهلكهما في البستان ولم يتمتعا به إلا قليلا فأخبرهما إلياس بذلك فلم يراجعا الحق. فلما رأى إلياس أن بني إسرائيل قد أبوا إلا الكفر والظلم دعا عليهم فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين فهلكت الماشية والطيور والهوامّ والشجر وجهد الناس جهدًا شديدًا واستخفى إلياس خوفًا من بني إسرائيل فكان يأتيه رزقه ثم أنه أوى ليلة إلى أمرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب - به ضر شديد فدعا له فعوفى من الضر الذي كان به واتبع إلياس وكان معه وصحبه وصدقه وكان إلياس قد كبر فأوحى الله إليه إنك قد أهلكت كثيرًا من الخلق من البهائم والدواب والطير وغيرها ولم يعص سوى بني إسرائيل فقال إلياس: أي رب: دعني أكن أنا الذي أدعو لهم وأبتهج بالفرج لعلهم يرجعون فجاء إلياس إليهم وقال لهم: انكم قد هلكتم وهلكت الدواب بخطاياكم فإن أحببتم أن تعلموا أن الله ساخط عليكم بفعلكم وأن الذي أدعوكم إليه هو الحق فاخرجوا باصنامكم وادعوها فان استجابت لكم فذلك الحق كما تقولون وان هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ودعوت الله ففرّج عنكم قالوا أنصفت فخرجوا بأصنامهم فدعوها فلم يستجب لهم ولم يفرح عنهم فقالوا: لإلياس انا قد هلكنا فادع الله لنا فدعا لهم بالفرج وان يسقوا فخرجت سحابة مثل الترس وعظمت وهم ينظرون ثم أرسل الله منها المطر فحييت بلادهم وفرج الله عنهم ما كانوا فيه من البلاء فلم ينزعوا ولم يراجعوا الحق فلما رأى ذلك إلياس سأل الله أن يقبضه فيريحه منهم فكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المعطعم والمشرب فصار ملكيًا إنسيًا سماويًا أرضيًا وسلط الله على الملك وقومه عدوًا فظفر بهم وقتل الملك وزوجته بذلك البستان وألقاهما فيه حتى بليت لحومهما. ذكر نبوّة اليسوع عليه السلام وأخذ التابوت من بني إسرائيل فلمّا انقطع إلياس عن بني إسرائيل بعث الله أليسع فكان فيهم ما شاء اللّه ثمّ قبضه الله وعظمت فيهم الزحداث وعندهم التابوت يتوارثونه فيه السكينة وبقيّة ممّا ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة فكانوا لا يلقاهم عدوّ فيقدّمون التابوت إلاّ هزم الله العدوّ وكانت السكينة شبه رأس هر فإذا صرخت في التابوت بصراخ هرّ أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح ثمّ خلف فيها ملك يقال له إيلاف وكان الله يمنعهم ويحميهم فلمّا عظمت أحداثهم نزل بهم عدوّ فخرجوا إليه وأحرجوا التابوت فاقتتلوا فغلبهم عدوّهم على التابوت وزخذه منهم وانهزموا فلمّا علم ملكهم أن التابوت أخذ مات كَمَدًا ودخل العدوّ أرضهم ونهب وسبى وعاد فمكثوا على اضطراب من أمرهم واختلاف وكانوا يتمادون أحيانًا في غيّهم فيسلّط الله عليهم من ينتقم منهم فإذا راجعوا التوبة كفّ الله عنهم شرّ عدوهم فكان هذا حالهم من لَدُن توفي يوشع بن نون إلى أن بعث الله اشمويل وملكهم طالوت وردّ عليهم التابوت. وكانت مدّة ما بين وفاة يوشع الذي كان يلي أمر بني إسرائيل بعضها القضاة وبعضها الملوك وبعضها المتغلّبون إلى أن ثبت الملك فيهم ورجعت النبوّة إلى اشمويل أربعمائة سنة وستّين سنة. فكان أوّل من سُلّط عليهم رجل من نسل لوط يقال له كوشان فقهرهم وأذلّهم ثماني سنين ثمّ أنقذهم من يده أخ لكالب الأصغر يقال له عتنيل فقال بأمرهم أربعين سنة. ثمّ سُلّط عليهم ملك يقال له عجلون فملكهم ثماني عشرة سنة ثم استنقذهم منه رجل من سبط بنيامين يقال له أهوذ وقام بزمرهم ثمانين سنة. ثم سلط عليهم ملك من الكنعانيّين يقال له يابين فملكهم عشرين سنة واستنقذهم منه امرأة من بين أنبيائهم يقال لها دبورا ودبّر الأمر رجل من قبلها يقال له باراق أربعين سنة. ثمّ سُلّط عليهم قوم من نسل لوط فملكوهم سبع سنين واستنقذهم رجل يقال له جدعون بن يواش من ولد نفتالي بن يعقوب فدبّر أمرهم أربعين سنة وتوفيّ ودبّر أمرهم بعده ابنه ابيمالخ ثلاث سنين ثمّ دبّرهم بعده فولع بن فوّا ابن خال ابيمالخ ويقال إنّه ابن عمّه ثلاثًا وعشرين سنة ثمّ دبّر أمرهم بعده رجل يقال له يائير اثنتين وعشرين سنة. ثمّ ملكهم قوم من أهل فلسطين بني عمون ثماني عشرة سنة ثمّ قام بأمرهم رجل منهم يقال له يفتح ست سنين ثم دبّرهم بعده يبحسون سبع سنين ثمّ بعده آلون عشر سنين ثم بعده لترون ويسميه بعضهم عكرون ثماني سنين ثم قهرهم أهل فلسطين وملكوهم أربعين سنة ثمّ وليهم شمسون عشرين سنة ثمّ بقوا بعده عشر سنين بغير مدبّر ولا رئيس ثمّ قام بأمرهم بعد ذلك عالي الكاهن وفي أيامه غلب أهل فلسطين على التابوت في قول فلمّا مضى من وقت قيامه أربعون سنة بعث اشمويل نبيًا فدبرهم عشر سنين ثمّ سألوا اشمويل أن يبعث لهم ملكًا يقاتل بهم أعداءهم.كان من خبر اشمويل بن بالي أن بني إسرائيل لما طال عليهم البلاء وطمع فيهم الأعداء وأخذ التابوت منهم فصاروا بعده لا يلقون ملكًا إلا خائفين فقصدهم جالوت ملك الكنعانيين وكان ملكه ما بين مصر وفلسطين فظفر بهم فضرب عليهم الجزية وأخذ منهم التوراة فدعوا الله أن يبعث لهم نبيًا يقاتلون معه وكان سبط النبوّة هلكوا فلم يبق منهم غير امرأة حبلى فحبسوها في بيت خيفة أن تلد جارية فتبدّلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها فولدت غلامًا سمّته اشمويل ومعناه: سمع الله دعائي. وسبب هذه التسمية أنها كانت عاقرًا وكان لزوجها امرأة أخرى قد ولدت له عشرة أولاد فبغت عليها بكثرة الزولاد فانكسرت العجوز ودعت الله أن يرزقها ولدًا فرحم الله انكسارها وحاضت لوقتها وقرب منها زوجها فحملت فلما انقضت مدة الحمل ولدت غلامًا فسمّته اشمويل فلما كبر أسلمته في بيت المقدس يتعلم التوراة وكفله شيخ ن علمائهم وتبناه. فلمّا بلغ أن يبعثه الله نبيًا أتاه جبرائيل وهو يصلي فناداه بصوت يشبه صوت الشيخ فجاء إليه فقال: ما تريد فكره أن يقول لم أدعك فيفزع فقال: ارجع فنم فرجع فعاد جبرائيل لمثلها فجاء إلى الشيخ فقال له: يا بنيّ عُدْ فإذا دعوتك فلا تجبني فلمّا كانت الثالثة ظهر له جبرائيل وأمره بإنذار قومه وأعلمه أن الله بعثه رسولًا فدعاهم فكذبوه ثم أطاعوه وأقام يدبّر زمرهم وكان العمالقة مع ملكهم جالوت قد عظمت نكايتهم في بني إسرائيل حتى كادوا يُهلكونهم فلما رأى بنو إسرائيل ذلك قالوا: فدعا الله فأرسل إليه عصًا وقرنًا فيه دهن وقيل له: إنّ صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا وإذا دخل عليك رجل فنشّ الدّهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه به وملّكه عليهم فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها وكان طالوت دبّاغًا وقيل: كان سقّاء يسقي الماء ويبيعه فضلّ حماره فانطلق يطلبه فلمّا اجتاز بالمكان الذي فيه اشمويل دخل يسأله أن يدعو له ليردّ الله حماره فلما دخل نشّ الدهن فقاسوه بالعصا فكان مثلها فـ فقال اشمويل: وكان فيهم إيشى أبو داود ومعه من أولاده ثلاثة عشر ابنًا وكان داود أصغر بنيه وقد خلفه يرعى لهم ويحمل لهم الطعام وكان قد قال لأبيه ذات يوم: يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئًا إلاّ صرعته ثم قال له: لقد دخلتُ بين الجبال فوجدت أسدًا رابضًا فركبتُ عليه وأخذت بأذنيه فلم أخفه ثمّ أتاه يومًا آخر فقال: إني لأمشي بين الجبال فأسبح فلا يبقى جبل إلا سبّح معي قال له: أبشر فإنّ هذا خير أعطاكه الله. فأرسل الله إلى النبيّ الذي مع طالوت قرنًا فيه دهن وتنّور من حديد فبعث به إلى طالوت وقال له: إنّ صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا الذهن على رأسه فيغلي حتى يسيل من القرن ولا يجاوز رأسه إلى وجهه ويبقي على رأسه كهيئة الإكليل ويدخل في هذا التنّور فيملأه فدعا طالوت بني إسرائيل فجرّبهم فلم يوافقه منهم أحد فأحضر داود من رعيه فمرّ في طريقه بثلاثة أحجار فكلّمته وقلن: خذنا يا داود تقتل بنا جالوت فأخذهن فجعلهنّ في مخلاته وكان طالوت قد قال: من قتل جالوت زوجته ابنتي وأجريت خاتمه في مملكتي. فلمّا جاء داود وضعوا القرن على رأسه فغلى حتى ادّهن منه ولبس التنّور فملأه وكان داود مسقامًا أزرق مصفارًا فلمّا دخل في التنور تضايق عليه حتى ملأه وفرح اشمويل وطالوت وبنو إسرائيل بذلك وتقدّموا إلى جالوت وتصافّوا للقتال وخرج داود نحو جالوت وأخذ الأحجار ووضعها في قذافته ورمى بها جالوت فوقع الحجر بين عينيه فنقب رأسه فقتله ولم يزل الحجر يقتل كلّ من أصابه ينفذ منه إلى غيره فانهزم عسكر جالوت بإذن الله ورجع طالوت فأنكح ابنته داود وأجرى خاتمه في ملكه فمال النّاس إلى داود وأحبّوه.فحسده طالوت وأراد قتله غِيلةً فعلم ذلك داود ففارقه وجعل في مضجعه زقّ خمر وسجّاه ودخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود فضرب الزقّ ضربة خرقه فوقعت قطرة من الخمر في فيه فقال: يرحم الله داود ما كان أكثر شربه الخمر فلما أصبح طالوت علم أنه لم يصنع شيئًا فخاف داود أن يغتاله فشدّد حجابه وحرّاسه. ثمّ إنّ داود أتاه من المقابلة في بيته وهو نائم فوضع سهمين عند رأسه وعند رجليه فما استيقظ طالوت بصر بالسهام فقال: يرحم الله داود هو خير مني ظفرتُ به وأردتُ قتله وظفر بي فكف عني وأذكى عليه العيون فلم يظفروا به. وركب طالوت يومًا فرأى داود فركض في أثره فهرب داود منه واختفى في غار في الجبل فعمّى الله أثره على طالوت ثمّ إن طالوت قتل العلماء حتى لم يبق أحد إلا امرأة كانت تعرف اسم الله الأعظم فسلمها إلى رجل يقتلها فرحمها وتركها وأخفى أمرها. ثم إنّ طالوت ندم وأراد التوبة وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس فكان كلّ ليلة يخرج إلى القبور فيبكي ويقول: أنشد الله عبدًا علم لي توبة إلا أخبرني بها فلما أكثر ناداه مناد من القبور: يا طالوت أما رضيت قتلتنا أحياء حتى تؤذينا أمواتًا فازداد بكاء وحزنًا فرحمه الرجل الذي أمره بقتل تلك المرأة فقال له: إن دللتك علي عالم لعلك تقتله قال: لا فزخذ عليه العهود والمواثيق ثمّ أخبره بتلك المرأة فقال: سلها هل لي من توبة فحضر عندها وسألها هل به من توبة فقالت: ما أعلم له من توبة ولكن هل تعلمون قبر نبيّ قالوا: نعم قبر يوشع بن نون فانطلقت وهم معها فدعت فخرج يوشع فلمّا رآهم قال: مالكم قالوا: جئنا نسألك هل لطالوت من توبة قال: ما أعلم له توبة إلا أن يتخلى من ملكه ويخرج هو وولده فيقاتلوا في سبيل الله حتى تقتل أولاده ثمّ يقاتل هو حتي يقتل فعسى أن يكون له توبة ثم سقط ميتًا ورجع طالوت أحزن مما كان يخاف أن لا يتابعه ولده فبكى حتى سقطت أشفار عينيه ونحل جسمه فسأله بنوه عن حاله فأخبرهم فتجهزوا للغزو فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا ثم قاتل هو بعدهم حتى قتل. وقيل: إن النبيّ الذي بعث لطالوت حتى أخبره بتوبته أليسع وقيل: اشمويل والله أعلم. وكانت مدّة ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة. ذكر ملك داود هو داود بن إيشي بن عويد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمّي نوذب بن رام بن حصرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق وكان قصيرًا أزرق قليل الشعر فلما قتل طالوت أتى بنو إسرائيل داود فأعطوه خزائن طالوت وملّكوه عليهم وقيل: إن داود ملك قبل أن يُقتل جالوت وسبب ملكه حينئذٍ أن الله أوصى إلى اشمويل ليأمر طالوت بغزو مدين وقتل من بها فسار إليها وقتل من بها رلا ملكهم فإنه أخذه أسيرًا فأوحى الله إلى اشمويل: قل لطالوت آمرك بأمر فتركته لأنزعن الملك منك ومن بنيك ثمّ لا يعود فيكم إلى يوم القيامة وأمر اشمويل بتمليك داود فملّكه وسار إلى جالوت فقتله والله أعلم. فلما ملك بني إسرائيل جعله الله نبيًّا وملكًا وأنزل عليه الزبور وعلمه صنعة الدروع وهو أول من عملها وألان له الحديد وأمر الجبال والطير يسبحون معه إذا سبح ولم يعط الله أحدًا مثل صوته كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يأخذ بأعناقها وإنها لمصيخة تسمع صوته. وكان شديد الاجتهاد كثير العبادة والبكاء وكان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر وكان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف وكان يزكل من كسب يده. وفي ملكه مسخ أهل أيلة قردة وسبب ذلك أنهم كانوا تزتيهم يوم السبت حيتان البحر كثيرًا فإذا كان غير يوم السبت لا يجيء إليهم منها شيء فعملوا على جانب البحر حياضًا كبيرة وأجروا إليها الماء فإذا كان آخر نهار يوم الجمعة فتحوا الماء إلى الحياض فتدخلها الحيتان ولا تقدر على الخروج عنها فيأخذونها يوم الأحد فنهاهم بعض أهلها فلم ينتهوا فمسخهم الله قردة وبقوا ثلاثة أيام وهلكوا.ثم إن الله ابتلاه بزوجة أوريا وكان سبب ذلك أنه قد قسم زمانه ثلاثة أيام يومًا يقضي فيه بين الناس ويومًا يخلوا فيه للعبادة ويومًا يخلو فيه مع نسائه وكان له تسع وتسعون امرأة وكان يحسد فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب: أي ربيّ أرى الخير قد ذهب به آبائي فأعطني مثل ما أعطيتهم فأوحى الله إليه: إن آباءك ابتلوا ببلاء فصبروا ابتلي إبراهيم بذبح ابنه وابتلي إسحاق بذهاب بصره وابتلي يعقوب بحزنه على يوسف فقال: ربّ ابتلني بمثل ما ابتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم فأوحى الله إليه: إنك مبتلىً فاحترس. وقيل: كان سبب البليّة أنه حدّث نفسه أنه يطيق أن يقطع يومًا بغير مقارفة سوء فلما كان اليوم الذي يخلو فيه للعبادة عزم على أن يقطع ذلك اليوم بغير سوء وأغلق بابه وأقبل على العبادة فإذا هو بحمامة من ذهب فيها كل لون حسن قد وقعت بين يديه فأهوى ليأخذها فطارت غير بعيد من غير أن ييأس من أخذها فما زال يتبعها وهي تفرّ منه حتى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه حسنها فلما رأت ظلّه في الأرض جلّلت نفسها بشعرها فاستترت به فزاده ذلك رغبةً فسأل عنها فأخبر أن زوجها بثغر كذا فبعث إلى صاحب الثغر بأن يقدّم أوريا بين يدي التابوت في الحرب وكان كل من يتقدّم بين يدي التابوت لا ينهزم إمّا أن يظفر أو يقتل ففعل ذلك به فقُتل.وقيل: إنّ داود لما نظر إلى المرأة فأعجبته فسأل عن زوجها فقيل: إنّه في جيش كذا فكتب إلى صاحب الجيش أن يبعثه في سريّة إلى عدوّ كذا ففعل ذلك ففتح الله عليه فكتب إلى داود فأمر داود أن يرسل أيضًا إلى عدوّ كذا أشدّ منه ففعل فظفر فأمر داود أن يرسل إلى عدوّ ثالث ففعل فقتل أوريا في المرّة الثالثة فلمّا قتل تزوج داود امرأته وهي أم سليمان في قول قتادة. وقيل: إن خطيئة داود كانت أنه لما بلغه حسن امرأة أوريا تمنّى أن تكون له حلالًا فاتفق أن أوريا سار إلى الجهاد فقتل فلم يجد له من الهم ما وجده لغيره فبينما داود في المحراب يوم عبادته وقد أغلق الباب إذ دخل عليه ملكان أرسلهما الله إليه من غير الباب فراعه ذلك فقالا: قال: فما استطاع داود بعدها أن يملأ عينه من السماء حياء من ربه حتى قبض ونقش خطيئته في يده فكان إذا رأها اضطربت يده وكان يؤتى بالشراب في الإناء ليشربه فكان يشرب نصفه أو ثلثيه فيذكر خطيئته فينتحب حتى تكاد مفاصله يزول بعضها من بعض ثمّ يملأ الإناء من دموعه وكان يقال: إنّ دمعة داود تعدل دموع الخلائق وهو يجيء يوم القيامة وخطيئته مكتوبة بكفّه فيقول: يا ربّ ذنبي ذنبي قدِّمني فيقدَّم فلا يأمن فيقول: يا ربّ أخرني فلا يأمن.وأزالت الخطيئة طاعة داود عن بني إسرائيل واستخفّوا بأمره ووثب عليه ابن له يقال له إيشي وأمّه ابنة طالوت فدعا إلى نفسه فكثر أتباعه من أهل الزيغ من بني إسرائيل فلمّا تاب الله على داود اجتمع إليه طائفة من الناس فحارب ابنه حتى هزمه ووجّه إليه بعض قوّاده وأمره بالرفق به والتلطف لعله يأسره ولا يقتله وطلبه القائد وهو منهزم فاضطره إلى شجرة فقتله فحزن عليه داود حزنًا شديدًا وتنكّر لذلك القائد. ذكر بناء بيت المقدس ووفاة داود عليه السلام قيل: أصاب النّاس في زمان داود طاعون جارف فخرج بهم إلى موضع بيت المقدس وكان يرى الملائكة تعرج منه إلى السماء فلهذا قصده ليدعو فيه فلمّا وقف موضع الصخرة دعا الله تعالى في كشف الطاعون عنهم فاستجاب له ورفع الطاعون فاتخذوا ذلك الموضع مسجدًا وكان الشروع في بنائه لإحدى عشرة سنة مضت من ملكه وتوفي قبل أن يستتمّ بناءه وأوصى إلى سليمان بإتمامه وقتل القائد الذي قتل أخاه إيشي بن داود. فلّما توفي داود ودفنه سليمان تقدّم بإنفاذ أمره فقتل القائد واستتم بناء المسجد بناه بالرخام وزخرفه بالذهب ورصعه بالجواهر وقوي على ذلك جميعه بالجنّ والشياطين فلمّا فرغ اتخذ ذلك اليوم عيدًا عظيمًا وقرّب قربانًا فتقبّله الله منه وكان ابتداؤه أوّلًا ببناء المدينة فلمّا فرغ منها ابتدأ بعمارة المسجد وقد أكثر الناس في صفة البناء مما يستبعد ولا حاجة إلى ذكره. وقيل: إنّ سليمان هو الذي ابتدأ بعمارة المسجد وكان داود أراد أن يبنيه فأوحى الله إليه: إن هذا بيت مقدّس وإنك قد صبغت يدك في الدماء فلست ببانيه ولكن ابنك سليمان يبنيه لسلامته من الدماء فلمّا ملك سليمان بناه. ثمّ إنّ داود توفي وكان له جارية تغلق الأبواب كل ليلة وتأتيه بالمفاتيح فيقوم إلى عبادته فأغلقتها ليلة فرأت في الدار رجلًا فقالت: من أدخلك الدار فقال: أنا الذي أدخل على الملوك بغير إذن فسمع داود قوله فقال: أنت ملك الموت قال: نعم قال: فهلاّ أرسلت إليّ لأستعدّ للموت قال: قد أرسلتُ إليك كثيرًا قال: من كان رسولك قال: أين أبوك وأخوك وجارك ومعارفك قال: ماتوا قال: فهم كانوا رسلي إليك لأنك تموت كما ماتوا ثمّ قبضه فلمّا مات ورث سليمان ملكه وعلمه ونبوّته. وكان له تسعة عشر ولدًا فورثه سليمان دونهم وكان عمر داود لما توفي مائة سنة صحّ ذلك عن النبي ـ النبي ـ صلى الله عليه وسلمـ ـ وكانت مدّة ملكه أربعين سنة.لما توفي داود ملك بعده ابنه سليمان على بني إسرائيل وكان ابن ثلاث عشرة سنة وآتاه مع الملك النبوّة وسأل الله أن يؤتيه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده فاستجاب له وسخّر له الإنس والجنّ والشياطين والطير والريح فكان إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الإنس والجنّ حتى يجلس. وقيل: إنهما سخّر له الريح والجنّ والشياطين والطير وغير ذلك بعد أن زال ملكه وأعاده الله سبحانه إليه على ما نذكره. وكان أبيض جسيمًا كثير الشعر يلبس البياض وكان أبوه يستشيره في حياته ويرجع إلى قوله فمن ذلك ما قصّه الله في كتابه في قوله: قال بعض العلماء: في هذا دليل على أنّ كلّ مجتهد في الأحكام الفرعيّة مصيب فإن داود أخطأ وكان سليمان يأكل من كسب يده وكان كثير الغزو وكان إذا أراد الغزو أمر بعمل بساط من خشب يسع عسكره ويركبون عليه هم ودوابهم وما يحتاجون إليه ثمّ زمر الريح فحملته فسارت في غدوته مسيرة شهر وفي روحته كذلك وكان له ثلاثمائة زوجة وسبعمائة سرّيّة وأعطاه الله أجرًا أنّه لا يتكلّم أحد بشيء إلاّ حملته الريح إليه فيعلم ما يقول. ذكر ما جرى له مع بلقيس نذكر أولًا ما قيل في نسبها وملكها ثمّ ما جرى له معها فنقول: قد اختلف العلماء في اسم آبائها فقيل: إنها هي بلقمة ابنة ليشرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وقيل: هي بلقمة ابنة هادد واسمه ليشرح بن تبّع ذي الأذعار بن تبّع ذي المنار بن تبّع الرايش وقيل في نسبها غير ذلك لا حاجة إلى ذكره. وقد اختلف النّاس في التبابعة وتقديم بعضهم على بعض وزيادة في عددهم ونقصان اختلافًا لا يحصل الناظر فيه على طائل وكذا أيضًا اختلفوا في نسبها اختلافًا كثيرًا وقال كثير من الرواة: إنّ أمّها جنّيّة ابنة ملك الجنّ واسمها رواحة بنت السكر وقيل: اسم أمّها يلقمة بنت عمرو بن عمير الجنّيّ وإنّما نكح أبوها إلى الجنّ لأنّه قال: ليس في الإنس لي كفوة فخطب إلى الجنّ واختلفوا في سبب وصوله إلى الجنّ حتى خطب إليهم فقيل: إنّه كان لهجًا بالصيد فربّما اصطاد الجنّ على صور الظباء فيخلّي عنهنّ فظهر له ملك الجنّ وشكره علي ذلك واتخذه صديقًا فخطب ابنته فأنكحه على أن يعطيه ساحل البحر ما بين يبرين إلى عدن وقيل: إنّ أباها خرج يومًا متصيّدًا فرأي حديتين تقتتلان بيضاء وسوداء وقد ظهرت السوداء على البيضاء فزمر بقتل السوداء وحمل البيضاء وصبّ عليها ماء فأفاقت فأطلقها وعاد إلى داره وجلس منفردًا وإذا معه شابّ جميل فذعر منه فقال له: لا تخف أنا الحيّة التي أنجيتني والأسود الذي قتلته غلامٌ لنا تمرّد علينا وقتل عدّة من أهل بيتي وعرض عليه المال وعلم الطبّ فقال: أمّا المال فلا حاجة لي به وأمّا الطبّ فهو قبيح بالملك ولكن إن كان لك بنت فزوّجنيها فزوّجه على شرط أن لا يغيّر عليها شيئًا تعمله ومتى غيّر عليها فارقته فأجابه إلى ذلك فحملت منه فولدت له غلامًا فألقته في النّار فجزع لذلك وسكت للشرط ثمّ حملت منه فولدت جارية فألقتها إلى كلبة فأخذتها فعظم ذلك عليه وصبر للشرط ثمّ إنّه عصي عليه بعضُ أصحابه فجمع عسكره فسار إليه ليقاتله وهي معه فانتهى إلي مفازة فلمّا توسّطها رأى جميع ما معهم من الزاد يخلط بالتراب وإذا الماء يُصبّ من القرب والمزاود فأيقنوا بالهلاك وعلموا أنّه من فعال الجنّ عن أمر زوجته فضاق ذرعًا عن حمل ذلك فأتاها وجلس وأومأ إلى الأرض وقال: يا أرض صبرتُ لكِ على إحراق ابني وإطعام الكلبة إبنتي ثمّ أنتِ الآن قد فجعتنا بالزاد والماء وقد أشرفنا على الهلاك فقالت المرأة: لو صبرت لكان خيرًا لك وسأخبرك: إنّ عدوّك خدع وزيرك فجعل السمّ في الأزواد والمياه ليقتلك وأصحابك فمر وزيرك ليشرب ما بقي من الماء ويأكل من الزاد فأمره فامتنع فقتله ودلّتهم على الماء والميرة من قريب وقالت: أما ابنك فدفعته إلى حاضنة تربيّه وقد مات وأمّا ابنتك فهي باقية وإذا بجويرية قد خرجت من الأرض وهي بلقيس وفارقته امرأته وسار إلى عدوّ فظفر به. وقيل في سبب نكاحه إليهم غير ذلك والجميع حديث خرافة لا أصل له ولا حقيقة. وأمّا ملكها اليمن فقيل: إنّ أباها فوّض إليها الملك فملكت بعده وقيل: بل مات عن غير وصيّة بالملك لأحد فأقام النّاس ابن أخ له وكان فاحشًا خبيثًا فاسقًا لا يبلغه عن بنت قيل ولا ملك ذات جمال إلاّ أحضرها وفضحها حتى انتهى إلى بلقيس بنت عمّه فأراد ذلك منها فوعدته أن يحضر عندها إلى قصرها وأعدّت له رجلين من أقاربها وأمرتهما بقتله إذا دخل إليها وانفرد بها فلما دخل إليها وثبا عليه فقتلاه فلما قتل أحضرت وزراءه فقرّعتهم فقالت: أما كان فيكم من يزنف لكريمته وكرائم عشيرته ثمّ أرتهم إيّاه قتيلًا وقالت: اختاروا رجلًا تملّكونه فقالوا: لا وقيل: إنّ أباها لم يكن ملكًا وإنما كان وزير الملك وكان الملك خبيثًا قبيح السيرة يأخذ بنات الأقيال والأعيان والأشراف وإنها قتلته فملّكها الناس عليهم. وكذلك أيضًا عظموا ملكها وكثرة جندها فقيل: كان تحت يدها أربعمائة ملك كلّ ملك منهم على كورة مع كلّ ملك منهم أربعة آلاف مقاتل وكان لها ثلاثمائة وزير يدبّرون ملكها وكان لا اثنا عشر قائدًا يقود كلّ قائد منهم اثني عشر ألف مقاتل. وبالغ آخرون مبالغة تدلّ على سخف عقولهم وجهلهم قالوا: كان لها اثنا عشر ألف قَيْل تحت يد كلّ قيل مائة ألف مقاتل مع كل مقاتل سبعون ألف جيش في كل جيش سبعون ألف مبارز ليس فيهم إلا أبناء خمس وعشرين سنة وما أظنّ الساعة راوي هذا الكذب الفاحش عرف الحساب حتى يعلم مقدار جهله ولو عرف مبلغ العدد لأقصر عن إقدامه على هذا القول السخيف فإن أهل الزرض لا يبلغون جميعهم شبابهم وشيوخهم وصبيانهم ونساؤهم هذا العدد فيكف أن يكونوا أبناء خمس وعشرين سنة فيا ليت شعري كم يكون غيرهم ممن ليس من أسنانهم وكم تكون الرعيّة وأرباب الحرف والفلاحة وغير ذلك وإنما الجند بعض أهل البلاد وإن كان الحاصل من اليمن قد قلّ في زماننا فإنّ رقعة أرضه لم تصغر وهي لا تسع هذا العدد قيامًا كلّ واحد إلى جانب الآخر.ثمّ إنهم قالوا: أنفقت على كوة بيتها التي تدخل الشمس منها فتسجد لها ثلاثمائة ألف أوقية من الذهب وقالوا غير ذلك وذكروا من أمر عرشها ما يناسب كثرة جيشها فلا نطول بذكره وقد تواطأوا على الكذب والتلاعب بعقول الجهّال واستهانوا بما يلحقهم من استجهال العقلاء لهم وإنما ذكرنا هذا على قبحه ليقف بعض من كان يصدق به عليه فينتهي إلى الحقّ. وأما سبب مجيئها إلى سليمان وإسلامها فإنه طلب الهدهد فلم يره وإنما طلبه لأنّ الهدهد يرى الماء من تحت الأرض فيعلم هل في تلك الأرض ماء أم لا وهل هو قريب أم بعيد فبينما سليمان في بعض مغازيه احتاج إلى الماء فلم يعلم أحد ممن معه بعده فطلب الهدهد ليسأله عن ذلك فلم يره وقيل: بل نزلت الشمس إلى سليمان فنظر ليرى من أين نزلت لأنّ الطير كانت تظلّه فرأى موضع الهدهد فارغًا فقال: وكان الهدهد قد مرّ على قصر بلقيس فرأى بستانًا لها خلف قصرها فمال إلى الخضرة فرأى فيه هدهدًا فقال له: أين أنت عن سليمان وما تصنع ها هنا فقال له: ومن سليمان فذكر له حاله وما سخّر له من الطير وغيره فعجب من ذلك فقال له هدهد سليمان: وأعجب من ذلك أنّ كثرة هؤلاء القوم تملكهم امرأة ثمّ إنّ الهدهد عاد إلى سليمان فأخبره بعذره في تأخيره فقال له: اذهب بكتابي هذا فألقه إليها فوافاها وهي في قصرها فألقاه في حجرها فأخذته وقرأته وأحضرت قومها وقالت: فلما جاءت الهدية إلى سليمان قال للرسل: فلما جاءت قيل: فقال سليمان للشياطين: ابنوا لي صرحًا تدخل عليّ فيه بلقيس فقال بعضهم: إنّ سليمان قد سخّر له من سخّر وبلقيس ملكة سبأ ينكحها فتلد غلامًا فلا ننفك من العبودية أبدًا وكانت امرزة شعراء الساقين فقال الشياطين: ابنوا له بنيانًا يرى ذلك منها فلا يتزوجها فبنوا له صرحًا من قوارير خضر وجعلوا له طوابيق من قوارير بيض فبقي كأنّه الماء وجعلوا تحت الوطابيق صور دوابّ البحر من السمك وغيره وقعد سليمان على كرسيّ ثمّ أمر فأدخلت بلقيس عليه فلمّا أرادت أن تدخله ورأت صور السمك ودواب الماء حسبته لجة ماء فكشفت عن ساقيها لتدخل فلمّا رآها سليمان صرف نظره عنها و وقيل: إنّه أمرها أن تنكح رجلًا من قومها فامتنعت وأنفت من ذلك فقال: لا يكون في الإسلام إلاّ ذلك فقالت: إن كان لا بدّ من ذلك فزوجني ذا تبّع ملك همدان فزوجه إياها ثم ردها إلى اليمن وسلط زوجها ذا تبّع على الملك وأمر الجن من أهل اليمن بطاعته فاستعملهم ذو تبّع فعملوا له عدّة حصون باليمن منها سلحين ومراوح وفليون وهنيدة وغيرها فلما مات سليمان لم يطيعوا ذا تبّع وانقضى ملك ذي تبّع وملك بلقيس مع ملك سليمان. وقيل: إن بلقيس ماتت قبل سليمان بالشام وإنّه دفنها بتدمر وأخفى قبرها. ذكر غزوته أبا زوجته جرادة ونكاحها وعبادة الصنم في داره وأخذ خاتمه وعوده إليه قيل: سمع سليمان بملك في جزيرة من جزائر البحر وشدّة ملكه وعظم شأنه ولم يكن للنّاس إليه سبيل فخرج سليمان إلى تلك الجزيرة وحملته الريح حتى نزل بجنوده بها فقتل ملكها وغنم ما فيها غنم بنتًا للملك لم ير الناس مثلها حسنًا وجمالًا فاصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على قلّة رغبة فيه وأحبها حبًا شديدًا وكانت لا يذهب حزنها ولا تزال تبكي فقال لها: ويحك ما هذا الحزن والدمع الذي لا يرقأ قالت: إنّي أذكر أبي وملكه وما أصابه فيحزنني ذلك قال: فقد أبدلك الله ملكًا خيرًا من ملكه وهداك إلى الاسلام قالت: إنه كذلك ولكني إذا ذكرته أصابني ما ترى فلو أمرت الشياطين فصوّروا صورته في داري أراها بُكرة وعشية لرجوت أن يذهب ذلك حزني. فزمر الشياطين فعملوا لها مثل صورته لا ينكر منها شيئًا وألبستها ثيابًا مثل ثياب أبيها وكانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عله في جواريها فتسجد له ويسجدن معها وتروح عشيّة ويرحن فتفعل مثل ذلك ولا يعلم سليمان بشيء من أمرها أربعين صباحًا. وبلغ الخبر آصف بن برخيّا وكان صدّيقًا وكان لا يُردّ من منازل سليمان أيّ وقت أراد من ليل أو نهار سواء كان سليمان حاضرًا أو غائبًا فزتاه فقال: يا نبيّ الله قد كبر سني ودقّ عظمي وقد حان منّي ذهاب عمري وقد أحببت أن أقوم مقامًا أذكر فيه أنبياء الله وأثني عليهم بعلمي فيهم وأعلم الناس بعض ما يجهلون قال: افعل فجمع له سليمان الناس فقام آصف خطيبًا فيهم فذكر من مضي من الأنبياء وأثنى عليهم حتى انتهى إلى سليمان فقال: ما كان فملئ سليمان غضبًا فأرسل إليه وقال له: يا آصف لمّا ذكرتني جعلت تثني عليّ في صغري وسكتّ عمّا سوى ذلك فما الذي أحدثت في آخر أمري قال: إن غير الله ليعبد في دارك أربعين يومًا في هوى امرأة قال: وكانت أمّ ولد له لا يثق إلا بها يسلّم خاتمه إليها وكان لا ينزعه إلا عند دخول الخلاء وإذا أراد أن يصيب امرأة فيسلمه إليها حتى يتطهّر وكان ملكه في خاتمه فدخل في بعض تلك الأيام الخلاء وسلم خاتمه إليها فأتاها شيطان اسمه صخر الجّنّي في صورة سليمان فأخذ الخاتم وخرج إلى كرسي سليمان وهو في صورة سليمان فجلس عليه وعكفت عليه الإنس والجن والطير وخرج سليمان وقد تغيّرت حاله وهيذته فقال: خاتمي فقالت ومن أنت قال: أنا سليمان قالت: كذبت لست بسليمان قد جاء سليمان وأخذ خاتمه مني وهو جالس على سريره فعرف سليمان خطيئته فخرج وجعل يقول لبني إسرائيل: أنا سليمان فيحثون عليه التراب فلمّا رأى ذلك قصد البحر وجعل ينقل سمك الصيادين ويعطونه كل يوم سمكتين يبيع إحداهما بخبز ويأكل الأخرى فبقي كذلك أربعين يومًا. ثمّ إنّ آصف وعظماء بني إسرائيل أنكروا حكم الشيطان المتشبّه بسليمان فقال آصف: يا بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم سليمان ما رأيت قالوا: نعم قال: أمهلوني حتى أدخل على نسائه وأسألهنّ هل أنكرن ما أنكرنا منه فدخل عليهنّ وسألهنّ فذكرن أشدّ مما عنده فقال: ثمّ خرج إلى بني إسرائيل فأخبرهم فلما رأى الشيطان أنهم قد علموا به طار من مجلسه فمرّ بالبحر فألقى الخاتم فيه فبلعته سمكة واصطادها صيّاد وحمل له سليمان يومه ذلك فأعطاه سمكتين تلك السمكة إحداهما فأخذها فشقّها ليصلحها ويأكلها فرأى خاتمه في جوفها فأخذه وجعله في إصبعه وخرّ لله ساجدًا وعكفت عليه الإنس والجنّ والطير وأقبل عليه الناس ورجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وبث الشياطين في إحضار صخر الذي أخذ الخاتم فأحضروه فنقب له صخرة وجعله فيها وسدّ النقب بالحديد والرصاص وألقاه في البحر. وكان مقامه في الملك أربعين يومًا بمقدار عبادة الصنم في دار سليمان. وقيل: كان السبب في ذهاب ملكه أنّ امرأة له كانت أبرّ نسائه عنده تسمّى جرادة ولا يأتمن على خاتمه سواها فقالت له: إنّ أخي بينه وبين فلان حكومة وأنا أحبّ أن تقضي له فقال: أفعل ولم يفعل فابتُلي وأعطاها خاتمه ودخل الخلاء فخرج الشيطان في صورته فأخذه وخرج سليمان بعده فطلب الخاتم فقالت: ألم تأخذه قال: لا وخرج من مكانه تائهًا وبقي الشيطان أربعين يومًا يحكم بين النّاس ففطنوا له وأحدقوا به ونشروا التوراة فقرأوها فطار من بين أيديهم وألقى الخاتم في البحر فابتعله حوت ثمّ إن سليمان قصد صيادًا وهو جائع فاستطعمه وقال: أنا سليمان فكذبه وضربه فشجّه فجعل يغسل الدّم فلام الصيادون صاحبهم وأعطوه سمكتين إحداهما التي ابتلعت الخاتم فشقّ بطنها وأخذ الخاتم فردّ الله إليه ملكه فاعتذروا إليه فقال: لا أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم. وسخر الله له الجن والشياطين والريح ولم يكن سخّرها له قبل ذلك وهو أشبه بظاهر القرآن وهو قوله تعالى : وقيل في سب زوال ملكه غير ذلك والله أعلم. لما ردّ الله إلى سليمان الملك لبث فيه مطاعًا والجنّ تعمل له وكان سليمان يتجرّد للعبادة في بيت المقدس السنة والسنتين والشهروالشهرين وأقلّ وأكثر يدخل معه طعامه وشرابه فأدخله في المرّة التي توفي فيها فبينما هو قائم يصلي متوكئًا على عصاه أدركه أجله فمات ولا تعلم به الشياطين ولا الجن وهم في ذلك يعملون خوفًا منه فأكلت الأرضة عصاه فانكسرت فسقط فعلموا أنه قد مات وعلم الناس أنّ الجن لا يعلمون الغيب ولو علموا ولما سقط أراد بنو إسرائيل أن يعلموا منذ كم مات فوضعوا الأرضة على العصا يومًا وليلة فأكلت منها فحسبوا بنسبته فكان أكل تلك العصا في سنة ثمّ إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب الطعام ولو كنت تشربين الشراب لأتيناك بأطيب الشراب ولكنّا سننقل لك الماء والطين فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت ألم تر إلى الطين يكون في وسط الخشبة فهو ما ينقلونه لها. قيل: إن الجن والشياطين شكوا ما يحلقهم من التعب والنصب إلى بعض أولي التجربة منهم وقيل: كان إبليس فقال لهم: ألستم تنصرفون بأحمال وتعودون بغير أحمال قالوا: بلى قال: فلكم في كلّ ذلك راحة فحملت الريح الكلام فألقته في أذن سليمان فأمر الموكّلين بهم أنهم إذا جاءوا بالأحمال والآلات التي يبنى بها إلى موضع البناءوالعمل يحملهم من هناك في عودهم ما يلقونه من المواضع التي فيها الأعمال ليكون أشقّ عليهم وأسرع في العمل فاجتازوا بذلك الذي شكوا إليه حالهم فأعلموه حالهم فقال لهم: انتظروا الفرج فإنّ الأمور إذا تناهت تغيّرت فلم تطل مدّة سليمان بعد ذلك حتى مات وكان مدّة عمره ثلاثًا وخسمين سنة وملكه أربعين سنة.
ذكر من ملك من الفرس بعد كيقباذ وكان أبوه كيكاووس قد تزوج ابنة أفراسياب ملك الترك وقيل: إنها ابنة ملك اليمن فهويت سياوخش ودعته إلى نفسها فامتنع فسعت به إلى أبيه حتى أفسدته عليه فسأل سياوخش رستم الشديد ليتوصل مع أبيه لينفذه إلى محاربة أفراسياب بسبب منعه بعض ما كان قد استقرّ بينهما وأراد البعد عن أبيه ليأمن كيد امرأته ففعل ذلك رستم فسيّره أبوه وضمّ إليه جيشًا كثيفًا فسار إلى بلاده الترك للقاء أفراسياب فلمّا سار إلى تلك الناحية جرى بينهما صلح فكتب سياوخش إلى أبيه يعرفه ما جري بينه وبين أفراسياب فلمّا سار إلى تلك الناحية جرى بينهما صلح فكتب سياوخش إلى أبيه يعرفه ما جرى بينه وبين أفرسياب من الصلح فكتب إليه والده يأمره بمناهضة أفراسياب ومحاربته وفسخ الصلح فاستقبح سياوخش الغدر وأنف منه فلم ينفذ ما أمره به ورأى أن ذلك من فعل زوجة والده ليقبّح فعله فراسل أفراسياب في الأمان لنفسه لينتقل إليه فأجابه أفراسياب إلى ذلك وكان السفير في ذلك قيران بن ويسعان ودخل سياوخش إلى بلاد الترك فزكرمه أفراسياب إلى ذلك وكان السفير في ذلك قيران بن ويسعان ودخل سياوخش إلى بلاد الترك فزكرمه أفراسياب وأنزله وأجرى عليه وزوّجه بنتًا له يقال لها وسفافريد وهي أمّ كيخسرو فظهر له من أدب سياوخش ومعرفته بالملك وشجاعته ما خاف على ملكه منه وزاد الفساد بينهما بسعي ابني أفراسياب وأخيه كيدر حسدًا منهم لسياوخش فزمرهم أفراسياب بقتله فقتلوه ومثلوا به وكانت زوجته ابنة أفراسياب حاملة منه بابنه كيخسرو فطلبوا الحيلة في إسقاط ما في بطنها فلم يسقط فأنكر قيران الذي كان أمان سياوخش إليه لتضع ما في بطنها ويقتله فلمّا وضعت رقّ قيران لها وللمولود ولم يقتله وستر أمره حتى بلغ فسيّر كيكاووس إلى بلاد الترك من كشف أمره وأخذه إليه. وحين بلغ خبر قتله إلى فارس لبس شادوس بن جودرز السواد حزنًا وهو أوّل من لبسه ودخل على كيكاووس فقال له: ما هذا فقال: إنّ هذا اليوم يوم ظلام وسواد. ثم إنّ كيكاووس لما علم بقتل ابنه سيّر الجيوش مع رستم الشديد وطو أصبهبذ أصبهان لمحاربة أفراسياب فدخلا بلاد الترك فقتلا وأسرا وأثخنا فيها وجرى لهما مع أفراسياب حروب شديدة قُتل فيها ابنا أفراسياب وأخوه الذين أشاروا بقتل سياوخش.وزعمت الفرس أن الشياطين كانت مسخرّة له وأنها بنت له مدينة طولها في زعمهم ثلاثمائة فرسخ وبنوا عليها سورًا من صرف وسورًا من شبه وسورًا من فضة وكانت الشياطين تنقلها بين السماء والأرض وما بينهما وأن كيكاووس لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ثمّ إنّ الله أرسل إلى المدينة من يخرّبها فعجزت الشياطين عن المنع عنها فقتل كيكاووس جماعة من رؤوسائهم. وقال بعض العلماء بأخبار المتقدّمين: إنّما سخّر له فعل الشياطين بأمر سليمان بن داود وكان مظفّرًا لا يناوئه أحدٌ من الملوك إلا ظهر عليه فلم يزل كذلك حتى حدّثته نفسه بالصعود إلى السماء فسار من خراسان إلى بابل وأعطاه الله تعالى قوّة ارتفع بها هو ومن معه حتى بلغوا السحاب ثم سلبهم الله تلك القوة فسقطوا وهلكوا وأفلت بنفسه وأحدث يومئذ. وهذا جميعه من أكاذيب الفرس الباردة. ثمّ إنّ كيكاووس بعد هذه الحادثة تمزّق ملكه وكثرت الخوارج عليه وصاروا يغزونه فيظفر مرّة ويظفرون أخرى ثمّ غزا بلاد اليمن وملكها يومئذ ذو الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرايش فلما ورد اليمن خرج إليه ذو الأذعار وكان قد أصابه الفالج فلم يكن يغزو فلمّا وطئ كيكاووس بلاده خرج إليه بنفسه وعساكره وظفر بكيكاووس فأسره واستباح عسكره وحبسه في بئر وأطبق عليه فسار رستم من سجستان إلى اليمن وأخرج كيكاووس وأخذه وأراد ذو الأذعار منعه فجمع العساكر وأراد القتال ثمّ خاف البوار فاصطلحا علي أخذ كيكاووس والعود إلى بلاد الفرس فأخذ وزعاده إلى ملكه فأقطعه كيكاووس سجستان وزابلستان وهي من أعمال غزنة وأزال عنه اسم العبودية ثم توفي كيكاووس وكان ملكه مائة وخمسين سنة. ذكر ملك كيخسرو بن سياوخش بن كيكاووس لما مات كيكاووس ملك بعده ابن ابنه كيخسرو بن سياوخش بن كيكاوس وأمه وسفافريد ابنة أفراسياب ملك الترك فلما ملك كتب إلى الأصبهذين جميعهم أن يزتوا بعساكرهم جميعها فلما اجتمعوا جهّز ثلاثين ألفًا مع طوس وأمره بدخول بلاد الترك وأن لا يمرّ بقرية ولا مدينة لهم إلا قتل كل من فيها إلا مدينة من مدنهم كان بها أخ له اسمه فيروزد بن سياوخش كان أبوه قد تزوج أمه في بعض مدائن الترك فاجتاز طوس بها فجرى بينه وبين فيروزد حرب قتل فيها فيروزد فبلغ خبره كيخسرو فعظم عليه وكتب إلى عمّ له كان مع طوس يأمره بالقبض على طوس وإرساله مقيّدًا والقيام بأمر الجيش ففعل ذلك وسار بالعسكر نحو أفراسياب فسيّر أفراسياب العساكر إليه فاقتتلوا قتالًا شديدًا كثرت فيه القتلى وانحازت الفرس إلى رؤوس الجبال وعادوا إلى كيخسرو فوبّخ عمّه ولامه واهتمّ بغزو الترك فأمر بجمع العساكر جميعها وأن لا يتخلّف أحدٌ فلما اجتمعوا أعلمهم أنه يريد قصد بلاد الترك من أربعة وجوه فسير جودرز في أعظم العساكر وزمره بالخدول إلى بلاد الترك مما يلي بلخ وأعطاه درفش كابيان وهو العلم الزكبر الذي لهم وكانوا لا يرسلونه إلا مع بعض أولاد الملوك لزمر عظيم وسيّر عسكرًا آخر من ناحية الصين وسيّر عسكرًا آخر مما يلي الخزر وعسكرًا آخر بين هذين العسكرين فدخلت العساكر بلاد الترك من كل جهاتها وأخربتها لا سيما جودرز فإنّه قتل وأخرب وسبى وتبعه كيخسرو بنفسه في طريقه فوصل إليه وقد قتل جماعة كثيرة من زهل أفراسياب وأثخن فيهم ورآه قد قتل خمسمائة ألف ونيّفًا وستين ألفًا وأسر ثلاثين ألفًا وغنم ما لا يعدّ ولا يحصى وعرض عليه من قتل من أهل أفراسياب طراحنته فعظم جودرز عنده وشكره وأقطعه أصبهان وجرجان ووردت عليه الكتب من عساكره الداخلة من تلك الوجوه إلى الترك بما قتلوا وغنموا وأخربوا وأنهم هزموا لأفراسياب عسكرًا بعد عسكر فكتب إليهم أن يجدّوا في محاربتهم ويوافوه بموضع سمّاه لهم. فلما بلغ أفراسياب قتل من قتل من طراخنته وأهله وعساكره عظم ذلك عليه فسقط في يديه ولم يكن بقي عنده من أولاده غير ولده شيده فوجّهه في جيش نحو كيخسرو فسار إليه واقتتلوا قتالًا شديدًا أربعة أيام ثم انهزمت الترك وتبعهم الفرس يقتلونهم ويأسرون وأدركوا ابن أفراسياب فقتلوه وسمع أفراسياب بالحادثة وقتل ابنه فأقبل فيمن عنده من العساكر فلقي كيخسرو فاقتتلوا قتالًا شديدًا لم يسمع بمثله واشتدّ الأمر فانهزم أفراسياب وكثر القتل في الترك فقتل منهم مائة ألف وجدّ كيخسرو في طلب أفراسياب ولم يزل يهرب من بلد إلى بلد حتى بلغ أذربيجان فاستتر وظفر به وأتى به إلى كيخسرو فلما حضر عنده سأله عن غدره بأبيه فلم يكن له حجّة ولا عذر فأمر بقتله فذبح كما ذبح سياوخش ثم انصرف من أذربيجان مظفّرًا منصورًا فرحًا. فلما قتل أفراسياب ملك الترك بعده أخوه كي سواسف فلما توفي ملك بعده ابنه جرازسف وكان جبّارًا عاتيًا. فلما فرغ كيخسرو من الأخذ بثأر أبيه واستقرّ في ملكه زهد في الدنيا وترك الملك وتنسّك واجتهد أهله وأصحابه به ليلازم الملك فلم يفعل فقالوا له: فاعهد إلى من يقوم بالملك بعدك فعهد إلى لهراسب وفارقهم كيخسرو وغاب عنهم فلا يدري ما كان منه ولا أين مات وبعض يقول غير ذلك. وكان ملكه ستين سنة وملك بعده لهراسب.قيل: ثم ملك بعد سليمان على بني إسرائيل ابنه رحبعم بن سليمان وكان ملكه سبع عشرة سنة ثمّ افترقت ممالك بني إسرائيل بعد رحبعم فملك أبيا بن رحبعم سبط يهوذا وبنيامين دون سائر الأسباط وذلك أنّ سائر الأسباط ملّكوا عليهم يوربعم بن بايعا عبد سليمان بسبب القربان الذي كانت جرادة زوجة سليمان فيما زعموا قرّبته في دره للصنم فتوعّده الله تعالي أن ينزع بعض الملك عن ولده فكان ملك أبيا بن رحبعم ثلاث سنين ثمّ ملك أسا بن أبيا أمر السبطين اللذين كان أبوه يملكهما إحدى وأربعين سنة وكان رجلًا صالحًا وكان أعرج. ذكر محاربة آسا بن أفيا ورزح الهندي قيل: كان أسا بن أبيا رجلًا صالحًا وكان أبوه قد عبد الأصنام ودعا الناس إلى عبادتها فلما ملك ابنه أسا أمر مناديًا فنادى: ألا إنّ الكفر قد مات وأهله وعاش الإيمان وأهله فليس كافر في بني إسرائيل يطلع رأسه بكفر إلا قتلته فإن الطوفان لم يغرق الدنيا وأهلها ولم يخسف بالقرى ولم تطمر الحجارة والنار من السماء إلى الأرض إلا بترك طاعة الله والعمل بمعصيته وشدد في ذلك. فأتى بعضهم ممن كان يعبد الأصنام ويعمل بالمعاصي إلى أم أسا الملك وكانت تعبد الأصنام فشكوا إليها فجاءت إليه ونهته عما كان يفعله وبالغت في زجره فلم يصغ إلى قولها بل تهددها على عبادة الأصنام وأظهر البراءة منها فحينئذٍ أيس الناس منه وانتزح من كان يخافه وساروا إلى الهند. وكان بالهند ملك يقال له رزح وكان جبّارًا عاتيًا عظيم السلطان قد أطاعه أكثر البلاد وكان يدعو الناس إلى عبادته فوصل اليه أولذك النفر من بني إسرائيل وشكوا إليه ملكهم ووصفوا له البلاد وكثرتها وقلّة عسكرها وضعف ملكها وأطمعوه فيها. فأرسل الجواسيس فأتوه بأخبارها فلما تيقن الخبر جمع العساكر وسار إلى الشام في البحر وقال له بنو إسرائيل: إن لأسا صديقًا ينصره ويعينه قال: فأين أسا وصديقه من كثرة عساكري وجنودي وبلغ خبرُه إلى أسا فتضرّع إلى الله تعالي وأظهر الضعف والعجز عن الهنديّ وسأل الله النصرة عليه فاستجاب الله له وأراه في المنام: إنّي سأظهر من قدرتي في رزح الهنديّ وعساكره ما أكفيك شرهم وأغنمكم أموالهم حتى يعلم أعداؤك أن صديقك لا يُطاق وليّه ولا ينهزم جنده. ثمّ سار رزح حتى أرسى بالساحل وسار إلى بيت المقدس فلما صار على مرحلتين منه فرق عساكره فامتلأت منهم تلك الأرض وملئت قلوب بني إسرائيل رعبًا وبعث أسا العيون فعادوا وأخبروه من كثرتهم بما لم يُسمع بمثله وسمع الخبر بنو إسرائيل فصاحوا وبكوا وودّع بعضهم بعضًا وعزموا على أن يخرجوا إلى رزح ويستسلموا إليه وينقادوا له فقال لهم ملكهم: إنّ ربي قد وعدني بالظفر ولا خلف لوعده فعاودوا الدعاء والتضرّع ففعلوا ودعوا جميعهم وتضرّعوا فزعموا أن الله أوحى إليه: يا أسا إنّ الحبيب لا يُسلم حبيبه وأنا الذي أكفيك عدوّك فإنّه لا يهون من توكل عليّ ولا يضعف من تقوى بي وقد كنت تذكرني في الرخاء فلا أسلمك في الشدّة وسأرسل بعض الزبانية يقتلون أعدائي فاستبشر وأخبر بني إسرائيل فأما المؤمنون فاستبشروا وأما المنافقون فكذبوه. وزمره الله بالخروج إلى رزح في عساكره فخرج في نفر يسير فوقفوا على رابية من الأرض ينظرون إلى عساكره فلمّا رآهم رزح احتقرهم واستصغرهم وقال: إنما خرجت من بلادي وجمعت عساكري وأنفقت أموالي لهذه الطائفة ودعا النفر من بني إسرائيل الذين قصدوه والجواسيس الذين أرسلهم ليختبروا له وقال: كذبتموني وأخبرتموني بكثرة بني إسرائيل حتى جمعت العساكر وفرقت أموالي ثم أمر بهم فقتلوا وأرسل إلى أسا يقول له: أين صديقك الذي ينصرك ويخلّصك من سطوتي فأجابه أسا: يا شقيّ إنّك لا تعلم ما تقول أتريد أن تغالب الله بقوتك أم تكاثره بقلتك وهو معي في موقفي هذا ولن يغلب أحد كان الله معه وستعلم ما يحل بك فغضب رزح من قوله وصفّ عساكره وخرج إلى قتال أسا وأمر الرّماة فرموهم بالسهام وبعث الله من الملائكة مددًا لبني إسرائيل فأخذوا السهام ورموا بها الهنود فقتلت كل إنسان منهم نشّابته فقتل جميع الرماة فضج بنو إسرائيل بالتسبيح والدّعاء وتراءت الملائكة للهنود فلمّا رآهم رزح ألقي الله الرعب في قلبه وسقط في يده ونادى في عساكره يأمرهم بالحملة عليهم ففعلوا فقتلتهم الملائكة ولم يبق منهم غير رزح وعبيده ونسائه فلما رأى ذلك ولّى هاربًا وهو يقول: قتلني صديق أسا. فلما رآه أسا مدبرًا قال: اللهم إنك إن لم تهلكه استنفر علينا نائبه وبلغ رزح ومن معه إلى البحر فركبوا السفن فلما سارت بهم أرسل الله عليهم الرياح فعرّقتهم أجمعين. ثم ملك بعد أسا ابنه سافاط إلى أن هلك خمسًا وعشرين سنة ثم ملكت عزليا بنت عمرم أخت أخزيا وكانت قتلت أولاد ملوك بني إسرائيل ولم يبق منهم إلا يواش بن أخزيا وهو ابن ابنها فإنه ستر عنها ثم قتلها بواش وأصحابه وكان ملكها سبع سنين ثم ملك يواش أربعين سنة ثم قتله أصحابه وهو الذي قتل جدّته ثم ملك عوزيا بن امصيا بن يواش ويقال له غوزيا إلى أن توفي اثنتين وخمسين سنة ثم ملك يوثام بن عوزيا إلى أن توفّي ستّ عشرة سنة ثم ملك حزقيا بن أحاز إلى أن توفي فيقال: إنه صاحب شعيا الذي أعلمه شعيا انقضاء عمره فتضرّع إلى ربّه فزاده وأمر شعيا بإعلامه ذلك وقيل: إن صاحب شعيا في هذه القصة اسمه صدقيا على ما يرد ذكره.ذكر شعيا والملك الذي معه من بني إسرائيل ومسير سنحاريب إلى بني إسرائيل قيل: كان الله تعالى قد أوحى إلى موسى ما ذكر في القرآن: فكثر في بني اسرائي لالزحداث والذنوب وكان الله يتجاوز عنهم متعطفًا عليهم وكان من أول ما أنزل الله عليهم عقوبة لذنوبهم أنّ ملكًا منهم يقال له صدقية وكانت عادتهم إذا ملك عليهم رجل بعث الله إليه نبيًا يرشده ويوحي إليه ما يريد ولم يكن لهم غير شريعة التوراة فلما ملك صدقية بعث الله تعالى إليه شعيا وهو الذي بشر بعيسى وبمحمد عليهما السلام فلما قارب أن ينقضي ملكه عظمت الأحداث في بني إسرائيل فأرسل الله عليهم سنحاريب ملك بابل في عساكر يغصّ بها الفضاء فسار حتى نزل بيت المقدس وزحاط به وملك بني إسرائيل مريض في ساقه قرحة فأتاه النبيّ شعيا وقال له: إنّ الله يأمرك أن توصي وتعهد فإنك ميت فأقبل الملك على الدعاء والتضرّع فاستجاب الله له فأوحى الله إلى شعيا أنه قد زاد في عمر الملك صدقية خمس عشرة سنة وأنجاه من عدّوه سنحاريب فلما قال له ذلك زال عنه الألم وجاءته الصحة. ثم إن الله أرسل على عساكر سنحاريب ملكًا صاح بهم فماتوا غير ستة نفر منهم: سنحاريب وخمسة من كتّابه أحدهم بخت نصّر في قول بعضهم فخرج صدقية وبنو إسرائيل إلى معسكرهم فغنموا ما فيه والتمسوا سنحاريب فلم يجدوه فأرسل الطلب في أثره فوجدوه ومعه أصحابه فأخذوهم وقيدوهم وحملوهم إليه فقال لسنحاريب: كيف رأيت صنع ربّنا بك فقال: قد أتاني خبر ربّكم ونصره إياكم فلم أسمع ذلك فطاف بهم حول بيت المقدس ثم سجنهم. فأوحى الله إلى شعيا يأمر الملك بإطلاق سنحاريب ومن معه فأطلقهم فعادوا إلى بابل وأخبروا قومهم بما فعل الله بهم وبعساكرهم وبقي بعد ذلك سبع سنين ثم مات. وقد زعم بعض أهل الكتاب أن بني إسرائيل سار إليهم قبل سنحاريب ملك من ملوك بابل يقال له كفرو وكان بخت نصّر ابن عمّه وكاتبه وأنّ الله أرسل عليهم ريحًا فأهلكت جيشه وأفلت هو وكاتبه وأن هذا البابليّ قتله ابن له وأن بخت نصر غضب لصاحبه فقتل ابنه الذي قتله وأن سنحاريب سار بعد ذلك وكان ملكه بنينوي وغزا مع ملك أذربيجان يومئذٍ بني إسرائيل فأوقع بهم ثم اختلف سنحاريب وملك أذربيجان وتحاربا حتى تفانى عسكراهما فخرج بنو إسرائيل وغنموا ما معهم. وقيل: كان ملك سنحاريب إلى أن توفّي تسعًا وعشرين سنة وكان ملك بني إسرائيل الذي حصره سنحاريب حزقيًا فلمّا توفّي حزقيا ملك بعده ابنه منشى خسمًا وخمسين سنة ثم ملك بعده آمون إلى أن قتله أصحابه ثنتي عشرة سنة ثم ملك ابنه يوشيا الي أن قتله فرعون مصر الزجدع إحدى وثلاثين سنة ثم ملك بعده ابنه ياهو أحاز بن يوشيا فعزله فرعون الأجدع واستعمل بعده يوياقيم بن ياهو أحاز ووظف عليه خراجًا يحمله إليه وكان ملكه اثنتي عشرة سنة ثم ملك بعده ابنه يوياحين فغزاه بخت نصّر وأشخصه إلى بابل بعد ثلاثة أشهر من ملكه وملك بعده يقونيا ابن عمه وسماه صدقية وخالفه فغزاه وظفر به وحمله إلى بابل وذبح ولده بين يديه وسمل عينيه وخرّب بيت المقدس والهيكل وسبى بني إسرائيل وحملهم إلى بابل فمكثوا إلى أن عادوا إليه على ما نذكره إن شاء الله وكان جميع ملك صدقية إحدى عشرة سنة.وقيل: إن شعيا أوحى الله إليه ليقوم في بني إسرائيل يذكرهم بما يوحي الله على لسانه لما كثرت فيهم الأحداث ففعل فعدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت له فدخلها وأخذ الشيطان بهدب ثوبه وأراه بني إسرائيل فوضعوا المنشار على الشجرة فنشروها حتي قطعوه في وسطها. وقيل في أسماء ملوكهم غير ذلك ركناه كراهة التطويل ولعدم الثقة بصحة النقل به. ذكر ملك لهراسب وابنه بشتاسب وظهور زرادشت قد ذكرنا أن كيخسرو لما حضرته الوفاة عهد إلى ابن عمّه لهراسب بن كيوخى بن كيكاووس فهو ابن ابن كيكاووس فلمّا ملك اتخذ سريرًا من ذهب وكلّله بأنواع الجواهر وبنيت له بزرض خراسان مدينة بلخ وسمّاها الحسناء ودوّن الدواوين وقوّى ملكه بانتخابه الجنود وعمر الأرض وجبى الخراج لأرزاق الجند. واشتدّت شوكة الترك في زمانه فنزل بلخ لقتالهم وكان محمودًا عند زهل مملكته شديد القمع لزعدائه المجاورين له شديد التفقد لأصحابه وبعيد الهمة عظيم البنيان وشقّ عدّة أنهار وعمر البلاد وحمل إليه ملوك الهند الروم والمغرب الخراج وكاتبوه بالتمليك هيبةً له وحذرًا ثم إنه تنسّك وفارق الملك واشتغل بالعبادة واستخلف ابنه بشتاسب في الملك وكان ملكه مائة وعشرين سنة وملك بعده ابنه بشتاسب وفي أيامه ظهر زرادشت بن سقيمان الذي ادّعى النبوّة وتبعه المجوس وكان زرادشت فيما يزعم أهل الكتاب من أهل فلسطين يخدم لبعض تلامذة إرميا النبيّ خاصًّا به فخانه وكذب عليه وفدعا الله عليه فبرص ولحق ببلاد أذربيجان وشرع بها دين المجوس. وقيل: إنّه من العجم وصنّف كتابًا وطاف به الأرض فما عرف أحد معناه وزعم أنها لغة سماوية خوطب بها وسمّاه: اشتا فسار من أذربيجان إلى فارس فلم يعرفوا ما فيه ولم يقبلوه فسار إلى الهند وعرضه على ملوكهم ثمّ أتى الصين والترك فلم يقبله أحد وأخرجوه من بلادهم وقصد فرغانة فأراد ملكها أن يقتله فهرب منها وقصد بشتاسب بن لهراسب فأمر بحبسه فحبس مدّة وشرح زرادشت كتابه وسمّاه: زند ومعناه: التفسير ثم شرح الزند بكتاب سمّاه: بازند يعني: تفسير التفسير وفيه علوم مختلفة كالرياضات وأحكام النجوم والطبّ وغير ذلك من أخبار القرون الماضية وكتب الأنبياء وفي كتابه: تمسّكوا بما جئتكم به إلى أن يجيئكم صاحب الجمل الأحمر يعني محمّدًا ـ النبي ـ صلى الله عليه وسلمـ ـ وذلك على رأس ألف سنة وستّ مائة سنة وبسبب ذلك وقعت البغضاء بين المجوس والعرب ثم يذكر عند أخبار سابور ذي ثمّ إنّ بشتاسب زحضر زرادشت وهو ببلخ فلمّا قدم عليه شرع له دينه فأعجبه واتبعه وقهر الناس على اتباعه وقتل منهم خلقًا كثيرًا حتى قبلوه ودانوا به. وأمّا المجوس فيزعمون أن أصله من أذربيجان وأنه نزل على الملك من سقف إيوانه وبيده كبّة من نار يلعب بها ولا تحرقه وكلّ من أخذها من يده لم تحرقه وأنه اتبعه الملك ودان بدينه وبنى بيوت النيران في البلاد وأشعل من تلك النار في بيوت النيران فيزعمون أن النيران التي في بيوت عباداتهم من تلك إلى الآن. وكذبوا فإنّ النار التي للمجوس طفئت في جميع البيوت لما بعث الله محمدًا ـ النبي ـ صلى الله عليه وسلمـ ـ على ما نذكره إن شاء الله تعالى . وكان هظور زرادشت بعد مضيّ ثلاثين سنة من ملك بشتاسب وأتاه بكتاب زعم أنه وحي من الله تعالى وكتب في جلد اثني عشر ألف بقرة حفرًا ونقشًا بالذهب فجعله بشتاسب في موضع بإصطخر ومنع من تعليمه العامة. وكان بشتاسب وآباؤه قبله يدينون بدين الصابئة وسيرد باقي أخباره. ذكر مسير بختنصّر إلى بني إسرائيل قد اختلف العلماء في الوقت الذي أرسل فيه بخت نصّر على بني إسرائيل فقيل: كان في عهد إرميا النبيّ ودانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل وقيل: إنما أرسله الله على بني إسرائيل لما قتلوا يحيى بن زكرياء والأول أكثر. وكان ابتداء أمر بخت نصّر ما ذكره سعيد بن جبير قال: كان رجل من بني إسرائيل يقرأ الكتب فلما بلغ إلى قوله تعالى : ثمّ إن ملك الفرس أحب أن يطلع على أحوال الشام فأرسل إنسانًا يثق به ليتعرّف له أخباره وحال من فيه فسار إليه ومعه بخت نصّر فقير لم يخرج إلا للخدمة فلما قدم الشام رأى أكبر بلاد الله خيلًا ورجالًا وسلاحًا ففتّ ذلك في ذرعه فلم يسأل عن شيء وجعل بخت نصّر يجلس مجالس أهل الشام فيقول لهم: ما يمنعكم أن تغزوا بابل فلو غزوتموها ما دون بيت ما لها شيء فكلّهم يقول له: لا نحسن القتال ولا نراه فلما عادوا أخبر الطليعة بما رأوا من الرجال والسلاح والخيل وأرسل بخت نصّر إلى الملك يطلب إليه أن يحضره ليعرفه جليّة الحال فأحضره فأخبره بما كان جميعه ثمّ إنّ الملك أراد أن يبعث عسكرًا إلى الشام أربعة آلاف راكب جريدة واستشار فيمن يكون عليهم فأشاروا ببعض أصحابه فقال: لا بل بخت نصّر فجعله عليهم فساروا فغنموا وأوقعوا ببعض البلاد وعادوا سالمين. ثم إنّ لهراسب استعلمه أصبهبذ على ما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربيّ دجلة وكان السبب في مسيره إلى بني إسرائيل أنه لما استعمله لهراسب كما ذكرنا سار إلى الشام فصالحه أهل دمشق وبيت المقدس فعاد عنهم وأخذ رهائنهم فلمّا عاد من القدس إلى طبرية وثب بنو إسرائيل على ملكهم الذي صالح بخت نصّر فقتلوه وقالوا: داهنت أهل بابل وخذلتنا فلمّا سمع بخت نصّر بذلك قتل الرهائن الذين معه وعاد إلى القدس فأخبره. وقيل: إن الذي استعمله إنما كان الملك بهمن بن بشتاسب بن لهراسب وكان بخت نصّر قد خدم جدّه وأباه وخدمه وعمّر عمرًا طويلًا فأرسل بهمن رسلًا إلى ملك بني إسرائيل ببيت المقدس فقتلهم الإسرائيليّ فغضب بهمن من ذلك واستعمل بخت نصّر على أقاليم بابل وسيّره هذه الأسباب الظاهرة وإنما السبب الكلّيّ الذي أحدث هذه الأسباب الموجبة للانتقام من بني إسرائيل هو معصية الله تعالى ومخالفة أواره وكانت سنة الله تعالى في بني إسرائيل أنه إذا ملك عليهم ملكًا أرسل معه نبيًّا يرشده ويهديه إلى أحكام التوراة فلما كان قبل مسير بخت نصّر إليهم كثرت فيهم الأحداث والمعاصي وكان الملك فيهم يقونيا بن يوياقيم فبعث الله إليه إرميا قيل: هو الخضر عليه السلام فأقام فيهم يعدوهم إلى الله وينهاهم عن المعاصي ويذكر لهم نعمة الله عليهم بإهلاك سنحاريب فلم يرعووا فأمره الله أن يحذرهم عقوبته وأنه إن لم يراجعوا الطاعة سلّط عليهم من يقتلهم ويسبي ذراريّهم ويخرب مدينتهم ويستعبدهم ويأتيهم بجنود ينزع من قلوبهم الرأفة والرحمة فلم يراجعوها فأرسل الله إليه: لأقيضنّ لهم فتنة تذر الحليم حيران ويضلّ فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم ولأسلطن عليهم جبّارًا قاسيًا عاتيًا ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل وعساكر مثل قطع السحاب يهلك بني إسرائيل وينتقم منهم ويخرب بيت المقدس. فلمّا سمع إرميا ذلك صاح وبكى وشقّ ثيابه وجعل الرماد على رأسه وتضرّع إلى الله في رفع ذلك عنهم في أيّامه. فأوحى الله إليه: وعزّتي لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في وأتى ملك بني إسرائيل فأعلمه بما أوحي إليه فاستبشر وفرح ثمّ لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين ولم يزدادوا إلا معصيةً وتماديًا في الشرّ وذلك حين اقترب هلاكهم فقل الوحي حيث لم يكونوا هم يتذكّرون فقال لهم ملكهم: يا بني إسرائيل انتهوا عمّا أنتم عليه قبل أن يأتيكم عذاب الله فلم ينتهوا فألقى الله في قلب بخت نصّر أن يسير إلى بني إسرائيل ببيت المقدس فسار في العساكر الكثيرة التي تملأ الفضاء. وبلغ ملك بني إسرائيل الخبر فاستدعى إرميا النبيّ فلمّا حضر عنده قال له: يا إرميا أين ما زعمت أنّ ربّك أوحي إليك أن لا يهلك بيت المقدس حتى يكون الأمر منك فقال إرميا: إن ربي لا يخلف الميعاد وأنا به واثق. فلما قرب الأجل ودنا انقطاع ملكهم وأراد الله إهلاكهم أرسل الله ملكًا في صورة آدمي إلى إرميا وقال له: استفته فأتاه وقال له: يا إرميا أنا رجل من بني إسرائيل أستفتيك في ذوي رحمي وصلت أرحامهم بما أمرني الله به وأتيت إليهم حسنًا وكرامة فلا تزيدهم كرامتي إيّاهم إلا سخطًا لي وسوء سيرة معي فأفتني فيهم فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله وصل ما أمرك الله به أن تصله فانصرف عنه الملك ثم عاد إليه بعد أيام ف يتلك الصورة فقال له إرميا: أما طهرت أخلاقهم وما رأيت منهم ما تريد فقال: والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى ذوي رحمه إلا وقد زتيتها إليهم وأفضل من ذلك فلم يزدادوا إلا سوء سيرة فقال: ارجع إلى أهلك وأحسن إليهم فقام الملك من عنده فلبث أيامًا ونزل بخت نصّر على بيت المقدس بأكثر من الجراد ففزع منهم بنو إسرائيل وقال ملكهم لإرميا: أين ما وعدك ربك فقال: إني بربي واثق. ثمّ إن الملك الذي أرسله الله يستفتي إرميا عاد إليه وهو قاعد على جدار بيت المقدس فقال مثل قوله الأول وشكا أهله وجورهم وقال له: يا نبيّ الله كلّ شيء كنت أصبر عليه قبل اليوم لأنّ ذلك كان فيه سخطي وقد رأيتهم اليوم على عمل عظيم من سخط الله تعالى فلو كانوا على ما كانوا عليه اليوم لم يشتدّ عليهم غضبي وإنما غضبت اليوم لله وأتيتك لأخبرك خبرهم وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلا ما دعوت الله عليهم أن يهلكوا فقال إرميا: يا ملك السموات والأرض إن انوا على حقّ وصواب فأبقهم وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم فلمّا خرجت الكلمة من فيه أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس والتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها. فلما رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال: يا ملك السموات والأرض يا أرحم الراحمين أين ميعادك أيا ربّ الذي وعدتني به فأوحى الله إليه أنه لم يصبهم ما أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت رسولنا فاستيقن أنها فتياه وأنّ السائل كان من عند الله وخرج إرميا حتى خالط الوحش ودخل بخت نصّر وجنوده بيت المقدس فوطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرّب بيت المقدس وأمر جنوده فحملوا التراب وألقوه فيه حتى ملأوه ثمّ انصرف راجعًا إلى بابل وأخذ معه سبايا بني إسرائيل وأمرهم فجمعوا من كان في بيت المقدس كلّهم فاجتمعوا واختار منهم مائة ألف صبيّ فقسمهم على الملوك والقوّاد الذين كانوا معه وكان من أولئك الغلمان دانيال النبيّ وحنانيا وعزاريا وميشائيل وقسّم بني إسرائيل ثلاث فرق فقتل ثلثًا وأقرّ بالشام ثلثًا وسبى ثلثًا ثمّ عمر الله بعد ذلك إرميا فه الذي رئي بفلوات الأرض والبلدان. ثم إنّ بخت نصّر عاد إلى بابل وأقام في سلطانه ما شاء الله أن يقيم ثمّ رأى رؤيا فبينما هو قد أعبجه ما رأى فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل وقال: أخبروني عن رؤيا رأيتها فأنسيتها ولذن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنزعنّ أكتافكم فخرجوا من عنده ودعوا الله وتضرّعوا إليه وسألوه أن يعلمهم إيّاها فأعلمهم الذي سألهم عنه فجاءوا إلى بخت نصّر فقالوا: رأيت تمثالًا قال: صدقتم قالوا: قدماه وساقاه من فخّار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضّة وصدره من ذهب ورأسه وعنقه من حديد فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك أرسل الله عليه صخرة من السماء فدقّته وهي التي أنستك الرؤيا قال: صدقتم فما تأويلها قالوا: أريت ملك الملوك وبعضهم كان ألين ملكًا من بعض وبعضهم كان أحسن ملكًا من بعض وبعضهم أشدّ وكان أوّل الملك الفخّار وهو أضعفه وألينه ثمّ كان فوقه النحاس وهو أفضل منه وأشدّ ثمّ كان فوق النحاس الفضّة وهي أفضل من ذلك وأحسن ثمّ كان فوقها الذهب وهو أحسن من الفضّة وأفضل ثمّ كان الحديد وهو ملكك فهو أشد الملوك وأعزّ وكانت الصخرة التي رأيت قد أرسل الله من السماء فدقّت ذلك جميعه نبيًّا يبعثه الله من السماء ويصير الأمر إليه. فلما عبّر دانيال ومن معه رؤيا بخت نصّر قرّبهم وأدناهم واستشارهم في أمره فحسدهم أصحابه وسعوا بهم إليه وقالوا عنهم ما أوحشه منهم فأمر فحفر لهم أخدود وألقاهم فيه وهم ستّة رجال وألقى معهم سبعًا ضاريًا ليأكلهم ثم قال أصحاب بخت نصّر: انطلقوا فلنأكل ولنشرب فذهبوا فأكلوا وشربوا ثمّ راحوا فوجدوهم جلوسًا والسبع مفترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحدًا ووجدوا معهم رجلًا سابعًا فخرج إليهم السابع وكان ملكًا من الملائكة فلطم بخت نصّر لطمةً فمسخه وصار في الوحش في صورة أسد وهو مع ذلك يعقل ما يعقله الإنسان ثم رده الله إلى صورة الإنس وأعاد عليه ملكه فلما عاد الي ملكه كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه فعاد الفرس وسعوا بهم إلى بخت نصّر وقالوا له في سعايتهم: إنّ دانيال إذا شرب الخمر لا يملك نفسه من كثرة البول وكان ذلك عندهم عارًا فصنع لهم بخت نصّر طعامًا وأحضره عنده وقال للبواب: انظر أوّل من يخرج ليبول فاقتله وإن قال لك: أنا بخت نصّر فقل له: كذبت بخت نصّر أمرني بقتلك واقتله. فحبس الله عن دانيال البول وكان أول من قام من الجمع بخت نصّر فقام مدلًا أنه الملك وكان ذلك ليلًا فلما رآه البواب شد عليه ليقتله فقال له: أنا بخت نصّر فقال: كذبت بخت نصّر أمرني بقتلك وقتله. وقيل في سبب قتله: إن الله أرسل عليه بعوضة فدخلت في منخره وصعدت إلى رأسه فكان لا يقرّ ولا يسكن حتى يدقّ رأسه فلما حصره الموت قال لأهله: شقّوا رأسي فانظروا ما هذا الذي قتلني فلما مات شقّوا رأسه فوجدوا البعوضة بزمّ رأسه ليرى الله العباد قدرته وسلطانه وضعف بخت نصّر لما تجبّر قتله بأضعف مخلوقاته تبارك الذي بيده ملكوت كلّ شيء يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وأما دانيال فإنه أقام بأرض بابل وانتقل عنها ومات ودفن بالسوس من أعمال خوزستان. ولما أراد الله تعالى أن يردّ بني إسرائيل إلى بيت المقدس كان بخت نصّر قد مات فإنه عاش بعد تخريب بيت المقدس أربعين سنة في قول بعض أهل العلم وملك بعده ابن له يقال له أولمردج فملك الناحية ثلاثًا وعشرين سنة ثم هلك وملك ابن له بلتاصر سنة فلما ملك تخلط في أمره فعزله ملك الفرس حينئذٍ وهو مختلف فيه علي ما ذكرناه واستعمل بعده داريوش على بابل الشام وبقي ثلاثين سنة ثمّ عزله واستعمل مكانه أخشويرش فبقي أربع عشرة سنة ثمّ ملك ابنه كيرش العلميّ وهو ابن ثلاث عشرة سنة وكان قد تعلّم التوراة ودان باليهودية وفهم عندانيال ومن معه مثل حنانيا وعزاريا وغيرهما فسألوه أن يأذن لهم في الخروج إلى بيت المقدس فقال: لو كان بقي منكم منكم ألف نبيّ ما فارقتكم وولّى دانيال القضاء وجعل إليه جميع أمره وأره أن يقسم ما غنمه بخت نصّر من بني إسرائيل عليهم وأمره بعمارة بيت المقدس فعمّر في أيّامه وعاد إليه بنو إسرائيل. وهذه المدّة لهؤلاء الملوك معدودة من خراب بيت المقدس منسوبة إلى بخت نصر وكان ملك كيرش اثنتين وعشرين سنة. وقيل: إنّ الذي أمر بعود بني إسرائيل إلى الشام بشتاسب بن لهراسب وكان قد بلغه خراب بلاد الشام وزنها لم يبق بها من بني إسرائيل أحد فنادى في أرض بابل: من شاء من بني إسرائيل أن يرجع إلى الشام فليرجع وملك عليهم رجلًا من ال داود وأمره أن يعمر بيت المقدس فرجعوا وعمروه.وكان إرميا بن خلقيا من سبط هارون بن عمران فلمّا وطئ بخت نصّر الشام وخرّب بيت المقدس وقتل بني إسرائيل وسباهم فارق البلاد واختلط بالوحش فلما عاد بخت نصّر إلى بابل أقبل إرميا على حمار له معه عصير عنب وفي يده سلّة تين فرأى بيت المقدس خرابًا فقال: وقيل: إنّ الذي أماته الله مائة عام ثمّ أحياه كان عزيزًا فلما عاش قصد منزله من بيت المقدس على وهم منه فرأى عنده عجوزًا عمياء زمنه كانت جارية له ولها من العمر مائة وعشرون سنة فقال لها: هذا منزل عزيز قالت: نعم وبكت وقالت: ما أرى أحدًا يذكر عزيزًا غيرك فقال: أنا عزيز فقالت: إنّ عزيزًا كان مجاب الدعوة فادع الله لي بالعافية فدعا لها فعاد بصرها وقامت ومشت فلما رأته عرفته وكان لعزيز ولد وله من العمر مائة وثلاث عشرة سنة وله أولاد شيوخ فذهبت إليهم الجارية وأخبرتهم به فجاؤوا فلما رأوه عرفه ابنه بشامة كانت في ظهره. وقيل: إنّ عزيزًا كان مع بني إسرائيل بالعراق فعاد إلى بيت المقدس فجدّد لبني إسرائيل التوراة لأنهم عادوا إلى بيت المقدس ولم يكن معهم التوراة لأنها كانت قد أُخذت فيما أخذ وأحرقت وعدمت وكان عزيز قد أخذ مع السبي فلما عاد عزيز إلى بيت المقدس مع بني إسرائيل جعل يبكي ليلًا ونهارًا وانفرد عن الناس فبينما هو كلذكل في حزنه إذ أقبل إليه رجل وهو جالس فقال: يا عزيز ما يبكيك فقال: أبكي لأنّ كتاب الله وعهده كان بين أظهرنا فعدم قال: فتريد أن يردّه الله عليكم قال: نعم قال: فارجع وصم وتطهر والميعاد بيننا غدًا هذا المكان ففعل عزيز ذلك وأتي المكان فانتظره وأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء وكان ملكًا بعثه الله في صورة رجل فسقاه من ذلك الإناء فتمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل فوضع لهم التوراة يعرفونها بحلالها وحرامها وحدودها فزحبّوه حبًّا شديدًا لم يحبّوا شيئًا قطّ مثله وأصلح أمرهم وأقام عزيز بينهم ثمّ قبضه الله إليه على ذلك وحدثت فيهم الأحداث حتى قال بعضهم: عزيز ابن الله ولم يزل بنو إسرائيل ببيت المقدس وعادوا وكثروا حتى غلبت عليهم الروم وقد اختلف العلماء في أمر بخت نصّر وعمارة بيت المقدس اختلافًا كثيرًا تركنا ذكره اختصارًا. ذكر غزو بختنصّر العرب قيل: أوحى الله إلى برخيا بن حنيا يأمره أن يقول لبخت نصّر ليغزو العرب فيقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم عقوبة لهم على كفرهم فقال برخيا لبخت نصّر ما أمر به فابتدأ بمن في بلاده من تجار العرب فأخذهم وبنى لهم حران بالنجف وحبسهم فيه ووكل بهم وانتشر الخبر في العرب فخرجت إليه طوائف منهم مستأمنين فقبلهم وعفا عنهم فأنزلهم السواد فابتنوا الزنبار وخلّى عن أهل الحيرة فاتخذوها منزلًا حياة بخت نصّر. فلمّا مات انضمّوا إلى أهل الأنبار وهذا أول سكنى العرب السواد بالحيرة والأنبار وسار إلى العرب بنجد والحجاز فأوحى الله إلى برخيا وإرميا يأمرهما أن يسير إلى معدّ بن عدنان فيأخذاه ويحملاه إلى حرّان وأعلمهما أنه يخرج من نسله محمد ـ النبي ـ صلى الله عليه وسلمـ ـ الذي يختم به الأنبياء فسارا تطوى لهما المنازل والأرض حتى سبقا بخت نصّر إلى معد فحملاه إلى حرّان في ساعتهما ولمعدّ حينئذٍ اثنتا عشرة سنة وسار بخت نصّر فلقي جموع العرب فقاتلهم فهزمهم وأكثر القتل فيهم وسار إلى الحجاز فجمع عدنان العرب والتقى هو وبخت نصّر بذات عرق قاتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم عدنان وتبعه بخت نصّر إلى حصون هناك واجتمع عليه العرب وخندق كلّ واحد من الفريقين على نفسه وأصحابه فكمّن بخت نصّر كمينًا وهو أول كمين عمل وأخذتهم السيوف فنادوا بالويل ونهي عدنان عن بخت نصّر وبخت نصّر عن عدنان فافترقا فلما رجع بخت نصّر خرج معد بن عدنان مع الأنبياء حتى أتى مكّة فأقام أعلامها وحج ّوحجّ معه الأنبياء وخرج معدّ حتى أتى ريشوب وسأل عمّن بقي منولد الحرث بن مضاض الجرهميّ فقيل له: بقي جوشم بن جلهمة فتزوج معد ابنته معانة فولدت له نزار بن معدّ. ذكر بشتاسب والحوادث في ملكه وقتل أبيه لهراسب لما ملك بشتاسب بن لهراسب ضبط الملك وقرّر قوانينه وابتنى بفارس مدينة فسا ورتّب سبعة من عظماء أهل مملكته مراتب وملك كلّ واحد منهم مملكة على قدر مرتبته ثمّ إنّه أرسل إلى ملك الترك واسمه خرزاسف وهو أخو أفراسياب وصالحه واستقرّ الصلح على أن يكون لبشتاسب دابّة واقفة على باب ملك الترك لا تزال علي عادتها على أبواب الملوك فلما جاء زرادشت إلى بشتاسب واتبعه على ما ذكرناه أشار زرادشت على بشتاسب بنقض الصلح مع ملك الترك وقال: أنا أعيّن لك طالعًا تسير فيه إلى الحرب فتظفر وهذا أول وقت وضعت فيه الاختيارات للملوك بالنجوم وكان زرادشت عالمًا بالنجوم جيّد المعرفة بها فأجابه بشتاسب إلى ذلك فأرسل إلى الدابّة التي بباب ملك الترك وإلى الموكّل بها فصرفهما فغضب ملك الترك وأرسل اليه يتهدده وينكر عليه ذلك ويأمره بإنفاذ زرادشت إليه وإن لم يفعل غزاه وقتله وأهل بيته. فكتب إليه بشتاسب كتابًا غليظًا يؤذنه فيه بالحرب وسار كلّ واحد منهما إلى صاحبه والتقيا واقتتلا قتالًا شديدًا فكانت الهزيمة على الترك وقتلوا قتلًا ذريعًا ومرّوا منهزمين وعاد بشتاسب إلى بلخ وعظم أمر زرادشت عند الفرس وعظم شأنه حيث كان هذا الظفر بقوله. وكان أعظم الناس غناء في هذه الحرب إسفنديار بن بشتاسب فلما انجلت الحرب سعى الناس بي بشتاسب وابنه اسفنديار وقالوا: ويريد الملك لنفسه فندبه لحرب بعد حرب ثمّ أخذه وحبسه مقيّدًا. ثم إنّ بشتاسب سار إلى ناحية كرمان وسجستان وسار إلى جبل يقال له طمبدر لدراسة دينه والتنسّك هناك وخلف أباه لهراسب ببلخ شيخًا قد أبطله الكبر وترك بها خزائنه وأولاده ونساءه فبلغت الأخبار إلى ملك الترك خرزاسف فلمّا تحققها جمع عساكره وحشد وسار إلى بلخ وانتهز الفرصة بغيبة بشتاسب عن مملكته ولما بلغ بلخ ملكها وقتل لهراسب وولدين لبشتاسب والهرابذة وأحرق الدواوين وهدم بيوت النيران وأرسل السرايا إلى البلاد فقتلوا وسبوا وأخربوا وسَبى ابنتين لبشتاسب إحداهما خُمانى والأخرى باذافره وأخذ علمهم الأكبر المعروف بدرفش كابيان وسار متبعًا لبشتاسب وهرب بشتاسب من بين يديه فتحصّن بتلك الجبال مما يلي فارس وضاق ذرعًا بما نزل به. فلما اشتدّ عليه الأمر أرسل إلى ابنه اسفنديار مع عالمهم جاماسب فأخرجه من محبسه واعتذر إليه ووعده أن يعهد إليه بالملك من بعده فلمّا سمع إسفنديار كلامه سجد له ونهض من عنده وجمع من عنده من الجند وبات ليلته مشغولًا بالتجهّز وسار من الغد نحو عسكر الترك وملكهم والتقوا واقتتلوا والتحمت الحرب وحمي الوطيس وحمل إسفنديار على جانب من العسكر فأثّر فيه ووّهنه وتابع الحملات وفشا في الترك أنّ إسفنديار هو المتولّي لحربهم فانهزموا لا يلوون على شيء وانصرف إسفنديار وقد ارتجع درفش كابيان. فلمّا دخل على أبيه استبشر به وأمره باتباع الترك ووصّاه بقتل ملكهم ومن قدر عليه من أهله ويقتل من الترك من أمكنه قتله وأن يستنقذ السبايا والغنائم التي أُخذت من بلادهم فسار إسفنديار ودخل بلاد الترك وقتل وسبى وأخرب وبلغ مدينتهم العظمى ودخلهم عنوة وقتل الملك وإخوته ومقاتلته واستباح أمواله وسبى نساءه واستنقذ أختيه ودوّخ البلاد وانتهى إلى آخر حدود بلاد الترك وإلى التّبّت وأقطع بلاد الترك وجعل كلّ ناحية إلى رجل من وجوه الترك بعد أن آمنهم ووظف عليهم خراجًا يحملونه كلّ سنة إلى أبيه بشتاسب ثم عاد إلى بلخ. فحسده أبوه بما ظهر منه من حفظ الملك والظفر بالترك وأسرّ ذلك في نفسه وأمره بالتجهّز والمسير إلى قتال رستم الشديد بسجستان وقال له: هذا رستم متوسّط بلادنا ولا يعطينا الطاعة لأن الملك كيكاووس وأعتقه فأقطعه إيّاها وقد ذكرنا ذلك في ملك كيكاوو وكان عغرض بشتاسب أن يقتله رستمُ أو يقتل هو رستم فإنه كان أيضًا شديد الكراهة لرستم فجمع العساكر وسار إلى رستم لينزع سجستان منه فخرج إليه رستم وقاتله فجمع العساكر وسار إلى رستم لينزع سجستان منه فخرج إليه رستم وقاتله فقتل إسفنديار قتله رستم. ومات بشتاسب وكان ملكه مائة سنة واثنتي عشرة سنة وقيل: مائة وعشرين سنة وقيل: مائة وخمسين سنة. وقيل: إنه جاءه رجل من بني إسرائيل زعم أنه نبيّ أرسل إليه واجتمع به ببلخ فكان يتكلّم بالعبريّ وزرادشت نبيّ المجوس يعبّر عنه وجاماسب العالم هو حاضر معهم يترجم أيضًا عن الإسرائيلي وكان بشتاسب ومن قبله من آبائه وسائر الفرس يدينون بدين الصابئة قبل زرادشت. ذكر الخبر عن ملوك بلاد اليمن من أيام كيكاووس إلى أيام بهمن بن اسفنديار قد مضي ذكر الخبر عمّن زعم أنّ كيكاووس كان في عهد سليمان بن داود وقد ذكرنا من كان في عهد سليمان من ملوك اليمن والخبر عن بلقيس بنت ايلشرح وصار الملك بعد بلقيس إلى ياسر بن عمرو بن يعفر الذي يقال له أنعم الانعامة قال أهل اليمن: إنّه سار غازيًا نحو المغرب حتى بلغ واديًا يقال له وادي الرمل ولم يبلغه أحد قبله فلمّا انتهى اليه لم يجد وراءه مجازًا لكثرة الرمل فبينما هو مقيم عليه إذ انكشف الرمل فأمر رجلًا يقال له عمرو أن يعبر هو وأصحابه فعبروا فلم يرجعوا فلمّا رأى ذلك أمر بنصب صنم نحاس فصُنع ثمّ نُصب على صخرة على شفير الوادي وكتب على صدره بالمسند: هذا الصنم لياسر أنعم الحميريّ ليس وراءه مذهب فلا يتكلّفنّ أحد ذلك فيعطب. وقيل: إنّ وراء ذلك الرمل قومًا من أمّه موسى وهم الذين عنى الله بقوله: ومن قوم موسى ثمّ ملك بعده تُبّع وهو تُبّان وهو أسعد وهو أبو كرب بن ملكيكرب تّبع بن زيد بن عمرو بن تبّع وهو ذو الأذعار بن أبرهة تبّع ذي المنار بن الرايش بن قيس بن صيفي بن سبأ وكان يقال له الزايد وكان تبّع هذا في أيام بشتاسب وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب وإنه شخص متوجّهًا من اليمن في الطريق الذي سلكه الرايش حتى خرج على جبلي طيّء ثمّ سار يريد الأنبار فلمّا انتهى إلى موضع الحيرة تحيّر وكان ليلًا فأقام بمكانه فسمّي ذلك المكان بالحيرة وخلّف به قومًا من الأزد ولخم وجُذام وعاملة وقُضاعة فبنوا وأقاموا به ثمّ انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيّء وكلب والسكون وبلحرث بن كعب وإياد ثم توجّه إلى الموصل ثم إلى أذربيجان فلقي الترك فهزمهم فقتل المقاتلة وسبى الذرّيّة ثم عاد إلى اليمن فهابته الملوك وأهدوا إليه وقدمت عليه هديّة ملك الهند وفيها تحف كثيرة من الحرير والمسك والعود وسائر طرف الهند فرأى ما لم يرَ مثله فقال للرسول: كلّ هذا في بلدكم فقال: أكثره من بلد الصين ووصف له بلد الصين فحلف ليغزونها فسار بحمير حتى أتى إلى الركائك وأصحاب القلانس السود ووجّه رجلًا من أصحابه يقال له ثابت نحو الصين في جمع عظيم فأصيب فسار تبّع حتى دخل الصين فقتل مقاتلتها واكتسح ما وجد فيها وكان مسيره ومقامه ورجعته في سبع سنين.ثمّ إنهّ خلّف بالتّبّت اثني عشر ألف فارس من حمير فهم أهل التّبّت ويزعمون أنهم عرب وألوانهم ألوان العرب وخلقهم. وهكذا ذكر وقد خالف هذه الرواية كثير من أصحاب السير والتواريخ وكل واحد منهم خالف الآخر وقدّم بعضهم من أخره الآخر فلم يحصل منهم كثير فائدة ولكن ننقل ما وجدنا مختصرًا. ذكر خبر أردشير بهمن وابنته خماني ثم ملك بعد بشتاسب ابن ابنه أردشير بهمن بن اسفنديار وكان مظفرًا في مغازيه وملك أكثر من أبيه وقيل: إنه ابتنى بالسواد مدينة وسمّاها أياوان أردشير وهي القرية المعروفة بهمينيا بالزاب الأعلى وابتنى بكور دجلة الأبلّة وسار إلى سجستان طالبًا بثأر أبيه فقتل رستم وأباه دستان وابنه فرامرز. وبهمن هو أبو دارا الأكبر وأبو ساسان أبي ملوك الفرس الأحرار أردشير ابن بابك وولده وأمّ دارا خمانى ابنة بهمن فهي أخته وأمّه. وغزا بهمن رومية الداخلة في ألف ألف مقاتل وكان ملوك الأرض يحملون إليه الإتاوة وكان أعظم ملوك الفرس شأنًا وأفضلهم تدبيرًا. وكانت أمّ بهمن من نسل بنيامين بن يعقوب وأم ابنه ساسان من نسل سليمان بن داود وكان ملك بهمن مائة وعشرين سنة وقيل: صمانين سنة وكان متواضعًا مرضيًّا فيهم وكانت كتبه تخرج: من عبد الله خادم الله السائس لأموركم. ثمّ ملكت بعده ابنته خمانى ملكوها حبًّا لأبيها ولعقلها وفروسيتها وكانت تلقّب بشهرزاد وقيل: إنما ملكت لأنها حين حملت منه دارا الأكبر سألته أن يعقد التاج له في بطنها ويؤثره بالملك ففعل بهمن وعقد التاج عليه حملًا في بطنها وساسان بن بهمن رجل يتصنع للملك فلمّا رأى فعل أبيه لحق باصطخر وتزهّد ولحق برؤوس الجبال واتخذ غنمًا وكان يتولاها بنفسه فاستبشعت العامّة ذلك منه. وهلك بهمن وابنه دارا في بطن أمه فملكوها ووضعته بعد أشهر من ملكها فأنفت من إظهار ذلك وجعلته في تابوت وجعلت معه جواهر وأجرته في نهر الكرّ من اصطخر وقيل: بنهر بلخ وسار التابوت إلى طحّان من أهل اصطخر ففرح لما فيه من الجوهر فحضنته امرأته ثم ظهر أمره حين شبّ فأقرّت خمانى بإساءتها فلما تكامل امتحن فوجد على غاية ما يكون أبناء الملوك فحوّلت التاج إليه وسارت إلى فارس وبنت مدينة اصطخر وكانت قد أوتيت ظفرًا وزغزت الروم وشغلت الأعداء عن تطرّق بلادها وخفّفت عن رعيّتها الخراج وكان ملكها ثلاثين سنة. وقيل: إنّ خمانى أم دارا حضنته حتى كبر فسلّمت إليه وعزلت نفسها فضبط الملك بشجاعة وحزم. ونرجع إلى ذكر بني إسرائيل ومقابلة تاريخ أيّامهم إلى حين تصرّمها ومدّة من كان في أيامهم من ملوك الفرس. قد ذكرنا فيما مضي سبب انصراف من انصرف إلى بيت المقدس من سبايا بني إسرائيل الذي كان بخت نصّر سباهم وكان ذلك في أيّام كيرش بن اخشويرش وملكه ببابل من قبل بهمن وأربع سنين بعد وفاته في ملك ابنته خُمانى وكانت مدّة خراب بيت المقدس من لدن خرّبّه بخت نصّر مائة سنة كلّ ذلك في أيّام بهمن بعضه وفي أيّام ابنته خُمانى بعضه وقيل غير ذلك وقد تقدّم ذكر الاختلاف. وقد زعم بعضهم أنّ كيرش هو بشتاسب وأنكر عليه قوله ولم يملك كيرش منفردًا قطّ. ولما عمر بيت المقدس ورجع إليه أهله كان فيهم عزير وكان الملك عليهم بعد ذلك من قبل الفرس إما رجل منهم وإما رجل من بني إسرائيل إلى أن صار الملك بناحيتهم لليونانية والروم لسبب غلبة الإسكندر على الناحية حين قتل دارًا بن دارا وكان جملة مدّة ذلك فيما قيل ثمانيًا وثمانين سنة.ذكر خبر دارا الأكبر وابنه دارا الأصغر وكيف كان هلاكه مع خبر ذي القرنين وملك دارا بن بهمن بن إسفنديار وكان يلقّب جهرازاد يعني كريم الطبع فنزل ببابل وكان ضابطًا لملكه قاهرًا لمن حوله من الملوك يؤدّون إليه الخراج وبنى بفارس مدينة سمّاها دارابجرد وحذّف دوابّ البرد ورتّبها وكان معجبًا بابنه دارا ومن حبّه له سمّاه باسم نفسه وصيّر له الملك بعده. وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة. ثم ملك بعده ابنه دارا وبنى بأرض الجزيرة بالقرب من نصيبين مدينة دارا وهي مشهورة إلى الآن واستوزر إنسانًا لا يصلح لها فأفسد قلبه على أصحابه فقتل رؤساء عسكره واستوحش منه الخاصّة والعامّة وكان شابًّا غرًّا جميلًا حقودًا سيّء السيرة في رعيّته. وكان ملكه أربع عشرة سنة. ذكر الإسكندر ذي القرنين كان فيلفوس أبو الاسكندر اليونانيّ من أهل بلدة يقال لها مقدونية كان ملكًا عليها وعلى بلاد أخرى فصالح دارا على خراج يحمله إليه في كلّ سنة فلما هلك فيلفوس ملك بعده ابنه الاسكندر واستولى على بلاد الروم أجمع فقوي على دارا فلم يحمل إليه من الخراج شيئًا وكان الخراج الذي يحمله بيضًا من ذهب فسخط عليه دارا وكتب إليه يؤنّبه بسوء صنيعه في ترك حمل الخراج وبعث إليه بصولجان والرة ويترك الملك وإن لم يفعل ذلك واستعصى عليه بعث إليه من يأتيه به في وثاق وإنّ عدّة جنوده كعدّة حبّ السمسم الذي بعث به إليه. فكتب إليه الاسكندر: إنه قد فهم ما كتب به وقد نظر إلى ما ذكر في كتابه إليه من إرساله الصولجان والكرة وتيمّن به لإلقاء الملقي الكرة إلى الصولجان واحترازه إيّاها وشبّه الأرض بالكرة وأنّه يجرّ ملك دارا إلى ملكه وتيمّنه بالسمسم الذي بعث كتيمّنه بالصولجان والكرة لدسمه وبعده من المرارة والحرافة وبعث إليه بصرّة فيها خردل وزعلمه في ذلك أنّ ما بعث به إليه قليل ولكنّه مرّ حرّيف وأنّ جنوده مثله فلمّا وصل كتباه إلى دارا تأهّب لمحاربته. وقد زعم بعض العلماء بأخبار الأوّلين أنّ الإسكندر الذي حارب دارا بن دارا هو أخو دارا الأصغر الذي حربه وأنّ أباه دارا الأكبر كان تزّوج أمّ الإسكندر وهي ابنة ملك الروم فلمّا حُملت إليه وجد نتن ريحها وسهكها فأمر أن يحتال لذلك منها فاجتمع رأي أهل المعرفة في مداواتها على شجرة يقال لها بالفارسيّة سندر فغسلت بمائها فأذهب ذلك كثيرًا من نتنها ولم يذهب كلّه وانتهت نفسه عنها فردّها إلى أهلها وقد علقت منه فولدت في أهلها غلامًا فسمّته باسم الشجرة التي غُسلت بمائها مضافًا إلى اسمها وقد هلك أبوها وملك الإسكندر بعده فمنع الخراج الذي كان يؤديه جدّه إلى دارا فأرسل يطلبه وكان بيضًا من ذهب فأجابه: إنّي قد ذبحت الدجاجة التي كانت تبيض ذلك البيض وأكلت لحمها فإن زحببت وادعناك وإن أحببت ناجزناك. ثم خاف الإسكندر من الحرب فطلب الصلح فاستشار دارا أصحابه فأشاروا عليه بالحرب لفساد قلوبهم عليه فعند ذلك ناجزه دارا القتال فكتب الإسكندر إلى حاجبي دارا وحكّمهما على الفتك بدارا فاحتكما شيئًا ولم يشترطا أنفسهما فلمّا التقيا للحرب طعن دارا حاجباه في الوقعة وكان الحرب بينهما سنة فانهزم أصحاب دارا ولحقه الاسكندر وهو بآخر رمق. وقيل: بل فتك به رجلان من حرسه من أهل همذان حبًّا للراحة من ظلمه وكان فتكهما به لما رأيا عسكره قد انهزم عنه ولم يكن ذلك بأمر الإسكندر وكان قد أمر الإسكندر مناديًا ينادي عند هزيمة عسكر دارا أن يؤسر دارا ولا يُقتل فأخبر بقتله فنزل إليه ومسح التراب عن وجهه وجعل رأسه في حجره وقال له: إنما قتلك أصحابك وإنني لم أهمّ بقتلك قطّ ولقد كنتُ أرغب بك يا شريف الأشراف ويا ملك الملوك وحُرّ الأحرار عن هذا المصرع فأوص بما أحببت فأوصاه دارا أن يتزوّج ابنته روشنك ويرعى حقها ويعظّم قدرها ويستبقي أحرار فارس ويأخذ له بثزره ممّن قتله ففعل الاسكندر ذلك أجمع وقتل حاجبي دارا وقال لهما: إنكما لم تشترطا نفوسكما فقتلهما بعد أن وفى لهما بما ضمن لهما وقال: ليس ينبغي أن يُستبقى قاتل الملوك إلا بذمّة لا تخفر وكان التقاؤهما بناحية خراسان مما يلي الخزر وقيل: ببلاد الجزيرة عند دارا. وكان ملك الرّوم قبل الإسكندر متفرّقًا فاجتمع وملك فارس مجتمعًا فتفرّق حمل الإسكندر كتبًا وعلومًا لأهل فارس من علوم ونجوم وحكمة ونقله إلى الرومية. وقذ ذكرنا قول من قال إنّ الإسكندر أخو دارا لأبيه وأمّا الروم وكثير من أهل الأنساب فيزعمون أنّه الإسكندر بن فيلفوس وقيل فيلبوس بن مطريوس وقيل: ابن مصريم بن هرمس بن هردس بن ميطون بن رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن ثوبة بن سرحون بن روميط بن زنط بن توقيل بن رومي بن الأصفر بن اليفز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم . فجمع بعد هلك دارا مُلك دارا فملك العراق والشام والروم ومصر والجزيرة وعرض جنده فوجدهم على ما قيل ألف ألف وأربعماذة ألف رجل منهم من جنده ثمانمائة ألف رجل ومن جند دارا ستّمائة ألف رجل وتقدّم بهدم حصون فارس وبيوت النيران وقتل الهرابذة وأحرق كتبهم واستعمل على مملكة فارس رجالًا وسار قدمًا إلى أرض الهند فقتل ملكها وفتح مدنها وخرّب بيوت الأصنام وأحرق كتب علومهم ثم سار منها إلى الصين فلمّا وصل إليها أتاه حاجبه في الليل وقال: هذا رسول ملك الصين فزحضره فسلّم وطلب الخلوة ففّتّشوه فلم يروا معه شيئًا فخرج من كان عند الإسكندر فقال: أنا ملك الصين جئت أسألك عن الذي تريده فإن كان مما يمكن عمله عملته وتركت الحرب فقال له الاسكندر: ما الذي آمنك مني قال: علمت أنك عاقل حكيم ولم يكن بيني وبينك عداوة ولا دخل وأنت تعلم أنك إن قتلتني لم يكن قتلي سببًا لتسليم أهل الصين مُلكي إليك ثم إنّك تنسب إلى الغدر. فعلم أنه عاقل فقال له: أريد منك ارتفاع ملكك لثلاث سنين عاجلًا ونصف الارتفاع لكل سنة قال: قد أجبتك ولكن أسألني كيف حالي قال: قل كيف حالك قال: أكون أوّل قتيل لمحارب وأول أكلة لمفترس قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنتين قال: يكون حالي أصلح قليلًا قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنة قال: يبقى ملكي وتذهب لذّاتي قال: وأنا أترك لك ما مضى وآخذ الثلث لكلّ سنة فكيف يكون حالك قال: يكون السدس للفقراء والمساكين ومصالح البلاد والسدس لي والثلث للعسكر والثالث لك قال: قد قنعتُ منك بذلك فشكره وعاد وسمع العسكر بذلك ففرحوا بالصلح. فلمّا كان الغد خرج ملك الصين بعسكر عظيم أحاط بعسكر الإسكندر فركب الإسكندر والناس فظهر ملك الصين على الفيل وعلى رأسه التاج فقال له الإسكندر: أغدرت قال: لا ولكنّي أردت أن تعلم أني لم أطعك من ضعف ولكني لما رأيت العالم العلويّ مقبلًا عليك أردت طاعته بطاعتك والقرب منه بالقرب منك فقال له الإسكندر: لايسأم مثلك الجزية فما رأيت بيني وبينك من يستحق الفضل والوصف بالعقل غيرك وقد زعفيتك من جميع ما أردته منك وأنا منصرف عنك فقال له ملك الصين: فلست تخسر وبعث إليه بضعف ما كان قرّره معه وسار الإسكندر عنه من يومه ودانت له عامّة الأرضين في الشرق والغرب وملك التّبّت وغيرها. فلمّا فرغ من بلاد المغرب والمشرق وما بينهما قصد بلاد الشمال وملك تلك البلاد ودان له من بها من الأمم المختلفة إلى أن اتّصل بديار يأجوج ومأجوج وقد اختلفت الأقوال فيهم والصحيح أنهم نوع من الترك لهم شوكة وفيهم شرّ وهم كثيرون وكانوا يفسدون فيما يجاورهم من الأرض ويخربون ما قدروا عليه من البلاد ويؤذون من يقرب منهم فلمّا رأى أهلُ تلك البلاد الإسكندر شكوا إليه من شرّهم كما أخبر اللّه عنهم في قوله: فلمّا فرغ من أمر السدّ دخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي والشمس جنوبية فلهذا كانت ظلمة وإلا فليس في الأرض موضع إلا تطلع الشمس عليه أبدًا فلمّا دخل الظلمات أخذ معه زربعمائة من أصحابه يطلب عين الخلد فسار فيها ثمانية عشر يومًا ثم خرج ولم يظفر بها وكان الخضر على مقدّمته فظفر بها وسبح فيها وشرب منها والله أعلم.ورجع إلى العراق فمات في طريقه بشهر زور بعلّة الخوانيق وكان عمره ستًّا وثلاثين سنة في قول ودفن في تابوت من ذهب مرصّع بالجوهر وطلي بالصبر لئلا يتغيّر وحمل إلى أمه بالإسكندرية. وكان ملكه أربع عشرة سنة وقتل دارا في السنة الثالثة من ملكه وبنى اثني عشرة مدينة منها: أصبهان وهي التي يقال لها جَبّي ومدينة هراة ومرو وسمرقند وبنى بالسواد مدينة لروشنك ابنة دارا وبأرض اليونان مدينة وبمصر الاسكندرية. فلمّا مات الإسكندر أطاف به من معه من الحكماء اليونانيين والفرس والهند وغيرهم فكان يجمعهم ويستريح إلى كلامهم فوقفوا عليه فقال كبيرهم: ليتكلم كلّ واحد منكم بكلام يكون للخاصّة معزّيًا وللعامّة واعظًا ووضع يده على التابوت وقال: أصبح آسر الإسراء أسيرًا وقال آخر: هذا الملك كان يخبأ الذهب فقد صار الذهب يخبأه وقال آخر: ما أزهد النّاس في هذا الجسد وما أرغبهم في التابوت وقال آخر: من أعجب العجب أنّ القويّ قد غلب والضعفاء لا هون مغترّون وقال آخر: هذا الذي جعل أجله ضمارًا وجعل أمله عيانًا هلاّ باعدت من أجلك لتبلغ بعض أملك بل هلاّ حقّقت من أملك بالامتناع من وفور أجلك وقال آخر: أيّها الساعي المنتصب جمعت ما خذلك عند الاحتياج إليه فغودرت عليه أوزاره وقارفت آثامه فجمعت لغيرك وإثمه عليك وقال آخر: قد كنت لنا واعظًا فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك فمن كان له معقول فليعقل ومن كان معتبرًا فليعتبر وقال آخر: رُبّ هائب لك يخافك من ورائك وهو اليوم بحضرتك ولا يخافك وقال آخر: رُبّ حريص على سكوتك إذ لا تسكت وهو اليوم حريص على كلامك إذ لا تتكلّم وقال آخر: كم أماتت هذه النفس لئلاّ تموت وقد ماتت وقال آخر وكان صاحب كتب الحكمة: قد كنت تزمرني أن لا أبعد عنك فاليوم لا أقدر على الدنّو منك وقال آخر: هذا يوم عظيم أقبل من شرّه ما كان مدبرًا وأدبر من خيره ما كان مقبلًا فمن كان باكيًا على مَنْ زال ملكه فليبك وقال آخر: يا عظيم السلطان اضمحل سلطانك كما اضمحلّ ظلّ السحاب وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الذباب وقال آخر: يا من ضاقت عليه الأرض طولًا وعرضًا ليت شعري كيف حالك بما احتوى عليك منها وقال آخر: اعجبوا مّمن كان هذا سبيله كيف شهر نفسه بجمع الأموال الحطام البائد والهشيم النافد وقال آخر: أيّها الجمع الحافل والملقى الفاضل لا ترغبوا فيما لا يدوم سروره وتنقطع لذّته فقد بان لكم الصلاح والرشاد من الغيّ والفساد وقال آخر: يا من كان غضبُه الموت هلاّ غضبت على الموت وقال آخر: قد رأيتم هذا الملك الماضي فليتعظ به هذا الملك الباقي وقال آخر: إن الذي كانت الآذان تنصت له قد سكت فليتكلّم الآن كلّ ساكت وقال آخر: سيلحق بك مَنْ سرّه موتك كما لحقت بمن سرّك موته وقال آخر: ما لك لا تقلّ عضوًا من أعضائك وقد كنت تستقلّ بملك الأرض بل ما لك لا ترغب عن ضيق المكان الذي أنت فيه وقد كنت ترغب عن رحب البلاد وقال آخر: إنّ دنيا يكون هذا في آخرها فالزهد أولى أن يكون في أولها. وقال صاحب مائدته: قد فرشتُ النمارق ونضدت النضائد ولا أرى عميد القوم وقال صاحب بيت ماله: قد كنت تأمرني بالادّخار فإلى من أدفع ذخائرك. وقال آخر: هذه الدنيا الطويلة العريضة قد طويت منها في سبعة أشبار ولو كنت بذلك موقنًا لم تحمل على نفسك في الطلب. وقالت زوجته روشنك: ما كنتُ أحسب أنّ غلاب دارا يُغلب فإنّ الكلام الذي سمعت منكم فيه شماتة فقد خلف الكأس الذي شرب به ليشربه الجماعة وقالت أمّه حين بلغها موته: لئن فقدت من ابني أمرَه لم يُفقد من قلبي ذكره. فهذا كلام الحكماء فيه مواعظ وحكم حسنة فلهذا أثبتّها. ومن حيل الإسكندر في حروبه أنه لما حارب دارا خرج إلى بين الصفّين وأمر مناديًا فنادى: يا معشر الفرس قد علمتم ما كتبتم إلينا وما كتبنا إليكم من الأمان فمن كان منكم على الوفاء فليعتزل فإنّه يرى منّا الوفاء فاتّهمت الفرس بعضها بعضًا واضطربوا.ومن حيله أنّه تلقّاه ملك الهند بالفيلة فنفرت خيلُ أصحابه عنها فعاد عنه وأمر باتخاذ فيلة من نحاس وألبسها السلاح وجعلها مع الخيل حتى ألفتها ثمّ عاد إلى الهند فخرج إليهم ملك الهند فأمر الإسكندر بتلك الفيلة فملئت بطونها من النفط والكبريت وجرّت على العجل إلى وسط المعركة ومعها جمع من أصحابه فلما نشبت الحرب أمر بإشعال النار في تلك الفيلة فلمّا حميت انكشف أصحابه عنها وغشيتها فيلة الهند فضربتها بخراطيمها فاحترقت وولّت هاربة راجعة على الهند فانهزموا بين يديها. ومن حيله أنّه نزل على مدينة حصينة وكان بها كثير من الأقوات وبها عيون ماء فعاد عنها فأرسل إليها قومًا على هيئة التجّار ومعهم أمتعة يبيعونها وأمرهم بمشترى الطعام والمغالاة في ثمنها فإذا صار عندهم أحرقوه وهربوا ففعلوا ذلك وهربوا إليه فأنفذ السرايا إلى سواد تلك المدينة وأمرهم بالغارة مرّة بعد أخرى فهربوا ودخلوا البلد ليحتموا به فسار الإسكندر إليهم فلم يمتنعوا عليه. وكتب إلى أرسطاطاليس يذكر له أنّ من خاصّة الروم جماعة لهم همم بعيدة ونفوس كبيرة وشجاعة وأنّه يخافهم على نفسه ويكره قتلهم بالظنّة فكتب إليه أرسطاطاليس: فهمتُ كتابك فإنّ ما ذكرت من بعد هممهم فإنّ الوفاء من بعد الهمّة وكبر النفس والغدر من دناءة النفس وخسّتها وأما شجاعتهم ونقص عقولهم فمن كانت هذه حاله فرفّهه في معيشتته واخصصه بحسان النساء فإنّ رفاهية العيش تميت الشجاعة وتحبّب السلامة وإيّاك والقتل فإنّه زلّة لا تستقال وذنب لا يغفر وعاقب بدون القتل تكن قادرًا على العفو فما أحسن العفو من القادر وليحسن خلقك تخلص لك النيّات بالمحبة ولا تؤثر نفسك على أصحابك فليس مع الاستئثار محبّة ولا مع المؤاساة بغضة. وكتب إلى أرسطاطاليس أيضًا لما ملك بلاد فارس يذكر له أنّه رأى بإيران شهر رجلًا ذوي رأي وصرامة وشجاعة وجمال وأنساب رفيعة وأنّه إنّما ملكهم بالحظّ والإنفاق وأنّه لا يأمن إ سافر عنهم فأفرغهم وثوبهم وأنّه لا يُكفى شرّهم إلاّ ببوارهم فكتب إليه: قد فهمت كتابك في رجال فارس فأمّا قتلهم فهو من الفساد والبغي الذي لا يؤمن عاقبته ولو قتلتهم لأثبت أهل البلد أمثالهم وصار جميع أهل البلد أعداءك بالطبع وأعداء عقبك لزنّك تكون قد وترتهم في غير حرب وأمّا إخراجك إيّاهم من عسكرك فمخاطرة بنفسك وأصحابك ولكنّي أشير عليك برأي هو أبلغ من القتل وهو أن تستدعي منهم أولاد الملوك ومن يصلح للملك فتقلّدهم البلدان وتجعل كلّ واحد منهم ملكًا برأسه فتتفرّق كلمتهم ويقع بأسهم بينهم ويجتمعون على الطاعة والمحبّة لك ويرون أنفسهم صنيعتك ففعل الإسكندر ذلك فهم ملوك الطوائف وقيل في ملوك
|